وطنية
من ويكيبيديا، الموسوعة encyclopedia
الوطنية تُعرف كذلك بالفخر القومي، هي التعلق العاطفي والولاء والانتساب لأمة محددة أو منطقة جغرافية بصفة خاصة واستثنائية عن الأمم والمناطق الأخرى. والشخص الوطني هو شخص يحب بلده ويدعم سلطته ويصون مصالحه. تتضمن الوطنية مجموعة مفاهيم ومدارك وثيقة الصلة بالقومية مثل الارتباط، والانتماء والتضامن، لأن واقع الحال يفيد بأن المصالح ملك للأمة التي تُعَرِّفُ الدولة بعلامات وملامح إثنية، وثقافية، وسياسية، وتاريخية مميزة. تُستخدم الوطنية والقومية بشكلٍ متعارضٍ في كثيرٍ من الأحيان، وإن أمكن التمييز بينهما نظريًا.[1][2]
تحتاج هذه المقالة كاملةً أو أجزاءً منها لإعادة الكتابة حسبَ أسلوب ويكيبيديا. (أبريل 2019) |
الوطنية مفهومٌ أخلاقيٌ وأحد أوجه الإيثار لدفعها المواطنين إلى التضحية براحتهم، وربما بحياتهم من أجل بلادهم.[3] رفض ألسدير ماكنتاير مقارنتها بالأخلاقيات، واعتبرها حجر الأساس الذي تقوم عليه الأخيرة.[4] وصفها جورج هيغل بالـ«مشاعر السياسية»، واعتبر تضحية المرء بفرديته لصالح الدولة أعظم اختبار للوطنية، ولكنه اشترط وجود الحكومة. ولم تنفصل الوطنية عن الحرية بالنسبة لجان جاك روسو، وجادل باستحالتها في مجتمع مستعبد، كما عبَّر عن ارتيابه ممن يُظهرون انتمائهم للإنسانية دون التزام لأقوامهم.[5] تقليديًا اقترنت الوطنية بالتيارات اليمينية أكثر من اليسار، هذا لا ينفي الوطنية عن اليسار أو يقترح امتلاك اليمينِ لحقوقها الحصرية، إنما لميل اليمين إلى تقديم الولاء على العدل. وضع نيكولو ماكيافيلي تقييمًا رفيعًا للوطنية في كتاب الأمير، واستبعد الحرية عن بلاد دون شعوب حاضرة لتقديم التضحيات اللازمة لأوطانها.[6] كان كتابه مناشدة لتخليص إيطاليا من الهيمنة الأجنبية والحكام الضعفاء قصيري النظر،[7] بغض النظر عن عدل أو ظلم الوسائل.[6] ومثاليًا الوطنية مهمة للدولة نظرًا لاحتياجها إلى جنود وشرطة، بيروقراطيين وضباط استخبارات، وغير ذلك من وظائف مهددة للسلامة الجسدية والنفسية، وبرغم عالمية اعتبارها فضيلة ضرورية للمجتمع، تعددت مظاهر وحجج معاداة الوطنية، فالسلاميون وبعض الأخلاقويين ينتقدون توكيدها على التحيز والمحاباة لاحتمال تطورها إلى شوفينية وجينغوية تعيق التقييم الموضوعي.
ويرى د. شادي نجيب جرعا أنه يجب التمييز بين الوطنية والمواطنة. فالمواطنة هي مجموعة الحقوق والواجبات التي تترتب على الفرد كونه يعيش في دولة ما وعليه ليس بالضرورة كل من ينطبق عليه لفظ مواطن أن يكون وطنيا.
بشكلٍ عامٍ، الوطنية مفهومٌ معقّدٌ وملغومٌ دون حلٍ نظريٍ متكاملٍ، يمكن النظر إلى الوطنية باعتبارها خليطاً من التعلق العاطفي بالبلد ورموزها التعريفية وقيمها التأسيسية التي تعرف بالمبادئ الأولى، ويمكن تمييز التعلق بالأمة وقيمها التأسيسية عن مؤسساتها وقرارتها السياسية.[8] ففي بلدٍ ديمقراطيٍ وحر، تُوَفِّرُ الوطنية شعورًا بالولاء والتفاني وتُقدّم للمواطنين غرضًا حياتيًا يرتكز عليه النظام.
يشتق مصطلح الوطنية من كلمة وطن التي يُعرِّفها لسان العرب لابن منظور بالمنزل الذي يقيم فيه الإنسان.[9] انعكست حياة التنقل والترحال على تعريف الوطن في المعاجم العربية، فاستعملت كلمات مثل مربط وحمى ومنزل، وغالبا ما جاء ذكر المنازل أو الديار في سياق الرثاء وعدم قدرة الشاعر على تمييز أطلال «وطنه» في الصحراء، أي منازل قبيلته في وقت من الأوقات. كان امرؤ القيس الكندي أول من سنَّ عادة الوقوف على آثار الديار والمنازل، وفي هذ القصائد مايحمل البذور الأساسية للمفهوم.[10] مثلاً جاء في مطلع معلقته:
ووردت كلمة وطن في شعر زامل بن عفير الطائي:
كلها إشارات إلى منازل القبيلة أو الحِمَى، وهو المرعى. ومن الحِمَى جائت كلمة حَميَّة بمعنى الغيرة، الغضب، أو الآنَفَة. وردت كلمة ”وطن“ في نصوص خط المسند، وجاءت في لغة السبئيين بمعنى حدود.[11] كانت إشارة إلى حدود محيطة بأي شيء من الهِجَر -المدن- إلى الحقول. الوطنية كلمة مستحدثة ظهرت في القرن التاسع عشر في أماكن مثل بيروت والقاهرة، وبرغم حداثتها لم تبتعد عن مقصد الشعراء والأدباء في عصور قديمة، إذ خلى الاستخدام من أي محتوى سياسي يُذكر واستخدم للإشارة إلى مكان الولادة أو المنشأ بالتحديد.[12] لم يتم استيعابه بشكل كامل كمقابل لمصطلح (بالإنجليزية: Patriotism) الذي مر بخط تطور مختلف نسبياً.[13]
يعود أصل المصطلح إلى كلمة (يونانية: πατριώτης - باتريوتيس) التي أُستخدمت في اليونان القديمة لوصف وتمييز البرابرة. كلمة (πατριά - باتريا) تعني عشيرة، وأراد اليونانيون الذين كانوا ينتمون إلى دول مدينة مختلفة تسمى بوليس، تمييز أنفسهم عن البرابرة المنظمين عشائريًا. دخلت الكلمة إلى اللغات الرومانسية في القرن السادس عشر، وأصبحت قيد الاستعمال في اللغة الإنجليزية خلال العصر الإليزابيثي. كانت الكلمة بدورها مجرد دلالة على الأصل الإثني المشترك، وتعني من نفس الأب أو من أرض الأسلاف.[14] اُستُعمِلت الكلمة خلال حروب الإصلاح الأوروبية على نطاقٍ واسع، وكانت حرب الثمانين عاماً للتخلص من هيمنة الإمبراطوريتين الإسبانية والرومانية المقدسة على هولندا، بداية تحول مغزاها بشكل حاسم. وصف ويليام الصامت وغيره من الكالفينيين الراديكاليين أنفسهم بالوطنيين خلالها، وترسخت الكلمة في الثقافة السياسية لسكانِ البلدان المنخفضة بمنتصف القرن السادس عشر. دعا الهوغنوتي بيير فابري من سماهم بالوطنيين الجيدين (فرنسية:tout bon citoyen et patriote) إلى حمل السلاح دفاعًا عن فرنسا ضد التحالف الكاثوليكي وأعوانهم الإسبان.[15]
اُضيفت ياءُ النسبِ إلى كلمة «وطني» في القرن الثامن عشر، وكان استخدامها في إنجلترا حكرًا على المعارضة في البداية قبل توسيع استعمالها لتشمل مجموعات أخرى. طرح هنري ساينت جون، نبيل بولينغبروك ماأسماه بـ”فكرة الملك الوطني“، الذي لا يتوهم أن مصدر سلطته مستقل عن الحقوق الطبيعية للشعب.[18] على الجانب الآخر من الأطلسي اُعتمِدَ المصطلح لتمييز الثوريين الأميركيين عن الموالين للإمبراطورية البريطانية خلال الثورة الأميركية، وألهم الأميركيون محرضي الثورة الباتافية ضد فيليم الخامس أمير أورانيا، الذين وصفوا أنفسهم بالوطنيين كذلك تمييزًا لأنفسهم عن الموالين للأمير.
اندلعت الثورة الفرنسية ضد الإقطاع بعد سنتين، ويمكن تعقب القومية الفرنسية إلى فترة مبكرة بدأت مع جان دارك، إلا أن الثورة كانت نقطة التحول الفاصلة. ساهمت حروب نابليون بداع نشر قيم التنوير، في سطوع القومية الرومانسية في القارة الأوروبية حتى انتكاسها بفضل سياسات الأمير كليمنس فون مترنيش التي أعقبت مؤتمر فيينا.[19] بشكل مماثل وإن تأخر نسبياً، تم توظيف الكلمة بشكل واسع خلال الثورة الألمانية، وساهمت الحرب الفرنسية البروسية في بزوغ القومية الألمانية التي قادت إلى وحدة الإمارات الجرمانية وتأسيس الإمبراطورية الألمانية. وفي إيطاليا قاد جوزيبي مازيني حراك استنهاض القومية الإيطالية المتأثرة بأفكار نيكولو ماكيافيلي لـ”توحيد أحفاد الروم“، بهدف تخليص بلادهم من القوى الأجنبية التي هيمنت عليها طيلة قرون.[20] في جميع هذه الحالات ارتبطت الوطنية بقِيَم البورجوازيين عن المصلحة الذاتية والصالح العام. لم تتطابق رؤى رجال الدولة بالضرورة، ولكنهم اتفقوا على خطوط عريضة أهمها المبادئ الجمهورياتية -أو الدستورية- والديمقراطية. فالوطنية منقبة أو فضيلة في إطار حالة اجتماعية تُحَرّض المرء على حب بلاده والعمل لتحقيق وحماية مصالحها. ليست هوية في حد ذاتها، ذلك أن الهوية معقودة بالقومية.
كان رفاعة الطهطاوي من أوائل من نقلوا المصطلح إلى اللغة العربية، وكان مدعومًا من الأسرة المصرية الحاكمة والتي سعت إلى الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية. عرَّف الطهطاوي الوطن بـ:
لم يرغب محمد علي باشا أن يتعلم المبتعثون المصريون إلى أوروبا أكثر مما يجب، فقد كان حاكمًا أوتوقراطيًا في نهاية المطاف، غير أن الليبرالية وجدت طريقها إلى كتابات الطهطاوي الذي عاصر ثورة يوليو الفرنسية وكتب عنها بإسهاب. لم يكن الطهطاوي رجل دولة ولم يُنظِّر لديمقراطية، ولكن إسهاماته حول القيود الأخلاقية المستمدة من الإسلام على سلطات الحاكم، جعلته أول من كتب حول فصل السلطات بالعربية. تعددت دوافعه من وراء ذلك، منها حقيقة أن الطبقة الحاكمة في مصر كانت خليطًا من أتراك وشركس، بينما كانت هيئة الفقهاء الدينيين مجال المصريين الوحيد للمشاركة في تيسير الشأن السياسي.[21] وسبب آخر كان حرصه على تجنب ردود سلبية من رجال الدين والسلطة الحاكمة حول إشادته الأصلية بمبادئ ومواد الدستور الفرنسي المتعلقة بالمساواة أمام القانون، حرية التعبير والحراك الاجتماعي.
أيقظت معاينته لآثار مصر القديمة في باريس، قوميته المصرية بصورة لم تكن مألوفة من قبل، وكل استشهاد بأثر للنبي محمد بخصوص قضية ما، أعقبه إفاضة حول نظرة المصريين القدماء لذات المسألة. آمن بمصر كفكرة تاريخية وثقافية مستمرة، وبقدرة المصريين على بناء حضارة جديدة قائلًا أن «بنية أجسام أهل هذه الأزمان هي عين بنية أهل الزمان الذي مضى وفات والقرائح واحدة»، أراد أن يقول بأن المصريين اليوم هم أحفاد ذات الأمة التي بنت أعظم حضارات العالم القديم، كما يُنظر إليها على نحوٍ واسع. حَمَّل الطهطاوي مسؤولية انحطاط مصر حضاريًا على الحكم الأجنبي بما في ذلك هيمنة الأسرة التي عَمِلَ لصالحها، لكنه لم يكن شوفينيًا ودعا إلى حسن معاملة الأجانب والتعلم منهم، وأشاد بأسرة محمد علي ما سعت إلى «إحياء أمجاد مصر».[22] الوطنية عند بطرس البستاني هي حماية المواطنين لحياتهم وكرامتهم، ممتلكاتهم وحقوقهم الثقافية وحرياتهم الدينية. بالنسبة لبطرس لايكون الإخلاص لشخص الحاكم، فالوطني الحقيقي يُكرِّس نفسه لما فيه مصلحة بلده.[23] كان البستاني قوميًا سوريًا، وكتب عن ضرورة التعاون على قدم مساواة لجميع أبناء البلد الواحد، ويتحقق ذلك بالاعتراف بجميع الأديان بما أنها "تعبد ذات الإله الواحد". لم يتبنى البستاني نبرة عدائية تجاه الإمبراطورية العثمانية، ويُنسب إليه قوله بأن "الإمبراطورية وطننا ولكن سورية بلادنا". شدد على الحرية والمساواة الدينية لأسباب عديدة منها الاضطرابات الطائفية في جبل لبنان، ولأنه فارق الكنيسة المارونية واعتنق البروتستانتية، لا يُنظر إلى البستاني كمُنظِّرٍ للأهلانية القومية، بل كمثقف سعى إلى العمل في إطار التنظيمات العثمانية.[24]
بعد وفاة الطهطاوي ظهر جيل من المثقفين المصريين ينتصر لأفكاره ويعمل على تطويرها، إذ دعا عبدالله النديم إلى ما أسماه بالـ«جامعة الوطنية»، وكان أول من أضفى طابعًا شعبويًا على القومية المصرية.[25] أخذ البريطانيون ومعهم طبقة من التجار الأجانب النافذين بترويج فكرة مفادها أن المصريين ليسوا بأمة ولا بالقادرين على بناء كيان قومي مستقل، إذ أراد الإنجليز إقناع النخبة المصرية المثقفة بتشكيل مجلس تشريعي تُمثل فيه الجاليات الأجنبية وفقًا لتعدادها، بما أن «تعدد الجماعات المنفصلة ينفي وجود أمة مصرية»، وفقًا لإيفلن بارينغ. كتب أحمد لطفي السيد أن المصريين ورثوا أرضًا من آلاف السنين وجميع من عاش بينهم و«اختلط دمه بدمائهم» وتطبع بعاداتهم فهو مصري، وجادل بأن شمائل المصريين تتغلب على «الأجانب» في البلد وليس العكس.[26] تأرجحت مصر بين عدة تيارات لصياغة خطاب قومي شامل، ووصل الحراك الثقافي إلى طريق مسدود بحلول عام 1952 وقيادة جمال عبدالناصر البلاد نحو القومية العربية، ولكنه لم يحقق أكثر من تأجيل جدل عاود الظهور مجددًا فور انهيارها.[27]
خلافًا لأوروبا تَصعُبُ دراسة طبقات الهوية في الشرق الأوسط، إذ تكشف طريقة استعمال مصطلحات الوطنية والقومية عن ارتباك،[29] واستخدامات حصرية بالدول الأعضاء في الجامعة العربية.[30] عادت الكلمة بعد انهيار القومية العربية، وسميت مرحلة مابعد قمة الخرطوم بـ«الوطنية»، ويقصدون القومية الإقليمية. لم يكن المفهوم غريبًا عليهم في الممارسة والواقع،[31] إذ عَبَّرَ ساطع الحصري عن استياءه من ترسيخ الحدود برغم رحيل الاستعمار. ذلك أن كثيرًا من بلدان المنطقة معروفة كأفكار تاريخية ومراكز إدارية بغض النظر عن التقاسم الاستعماري لتركة الإمبراطورية العثمانية.[32] كانت النخب السياسية حريصة على نجاة بلدانها لاستثماراتهم الراسخة فيها، وجادل بعضهم أن القومية العربية ليست أكثر من رخصة تتيح لبعض النخب إرهاب خصومها. على سبيل المثال استخدم العراقيون حججًا ثقافية وجيوسياسية للدفاع عن الحدود القومية، وأظهروا تحفظًا إزاء عبارات مثل: «الشعب العربي في العراق»، ولذلك أضاف عبد الكريم قاسم نجمة عشتار على شعار بلاده القومي تأكيدًا على الهوية القومية وصد دعوات الانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة.[32] حالة مشابهة كانت في تونس الحبيب بورقيبة الذي اتخذ سياسة مستقلة وأكثر انفتاحًا وشدد على حق بلاده في السعي إلى تحقيق مصالحها القومية.[33] لم يتجاوز صعود البعثيين منح القومية العربية اولوية ضمن الدولة العراقية، وبشكل مماثل في سوريا حيث حاولوا التوفيق بين القومية السورية التي اُعدم منظريها، وشعارات تصف سوريا بـ«قلب العروبة النابض». وفي حالات اُستخدمت الشعارات العروبية لترجيح كفة فصيل على آخر في صراع مراكز القوى داخل النظام. توجه بعض البعثيين السوريين إلى مصر بعد انقلاب 1963 لإعادة بحث الوحدة في 17 أبريل، كانت دوافعهم محلية وتهدف إلى استغلال اسم جمال عبد الناصر الذي كان لا يزال شعبياً حينها، لتمرير مشروعهم ضد فصائل سورية أخرى، بمن في ذلك الناصريين.[32] بشكل عام بدلاً من ترك المزاج العام يأخذ مجراه الطبيعي ويتطور إلى دولة قومية حديثة، واصل معظم سياسيو المنطقة بدرجات مختلفة، الحديث عن وطن عربي بتشدقٍ كلامي مخاتل خدمة لأغراض سلطوية.[34] بمعنى أن القومية العربية ورغم التخلي العملي عنها، استمر توظيفها كأداةٍ دعائية بقدر كبير من الاستخفاف لتحقيق غايات مختلفة.[35] كانت النتيجة نشازًا لازَمَ الشرق الأوسط لفترة طويلة،[36] وجماعات العنف الغير الحكومية والعابرة للقوميات أحد الأعراض الجانبية لهذا الخطاب الذي يشكك في الشرعية التأسيسية للدول بشكلٍ أو بآخر. بالرغم من بلاغيات السياسيين في المنطقة، معظم الدول محدودة سياسياً وذات سيادة، وتتشكل من مجتمعات قومية.[30]
قاموس أكسفورد الإنجليزي يصف الوطني بالشخص الذي يدعم بلاده بقوة، والمستعد للدفاع عنها من الأعداء أو المنتقصين.[37] موسوعة ستانفورد للفلسفة أوردت ما وصفته بالتعريف القياسي للوطنية وهو حب المرء لبلاده، ويتضمن التعريف:
- عاطفة أو تعلق وجداني بالبلد.
- قلق واهتمام خاص برفاهية وخير البلد.
- الإحساس بهوية خاصة مع البلد.
- الاستعداد لتقديم تضحيات تعزز من مصالح البلد، أي المصالح القومية.
تقول الموسوعة أن مامن فرق بين كلمتي عاطفة وحب ويمكن استعمالهما بشكل متعاوض، غير أن الحب من دون القلق ليس كافيًا للوطنية، ولذلك وجب تضمين الاهتمام أو القلق في التعريف. الاهتمام والقلق بحالة البلد ينطوي ضمناً على استعداد بتضحية لمصالح شعبها. الإحساس بالخصوصية عبارة مبهمة، وتسمح للمرء أن يطلق على بلد ما خاصته بصورة شكلية، ولذلك يمكن تحديد الوطني من طريقة تعريفه عن نفسه مع بلده خلال التعبير عن مشاعره بشكل غير مباشر، من فخر بمزاياها وإنجازاتها، أو شعور بالخزي لإخفاقاتها.[1] ترتبط الوطنية بالهوية القومية وهي تعريف للذات يحدد موقع الشخص من الناحيتين الاجتماعية والنفسية، وتظهر ضمن نظام من التمثيل والعلاقات الاجتماعية، وتتطلب اعترافاً متبادلاً. معاييرها التعريفية هي الاستمرارية عبر الزمن، والتمايز عن الآخرين. تنبع الاستمرارية من إدراك تجذر الأمة تاريخيًا، مع بناء تصورات واضحة للمستقبل، ويستوعب الأفراد هذه الاستمرارية من خلال مجموعة من التجارب الزمنية التي يفهمونها بشكلٍ موحد. أما التمايز فهو وعي بتشكل مجتمع متميز بثقافة، وماضٍ، ورموز، وتقاليد أراضٍ مُعرَّفة. لا يتولد الإحساس بالحدود الإقليمية تلقائيًا، لأن النخب هي أول من يكتسب مفهوماً واضحاً لها عبر التعليم، وبالتالي لا تُكَوِّنُ المجتمعات القروية إحساساً بالأمة من تلقاء نفسها.[38] بصورة عامة يكتسب القرويون وعامة الشعب قِيَمهم ويتعلمون التعريف عن أنفسهم عبر مايسمى بثقافة النخبة، أيًّا كان محتواها، التي تسقط نسخة مختارة من ثقافتها العالية على الجماهير. نجاح تعميم نسخة معينة من ثقافة النخبة يتطلب بيئة ترتبط فيه هذه الثقافة بهياكل السلطة، لتكون قادرة على توفير فرص للجماهير التي ستتبناها، وأن تقدم النخبة بعضًا من التنازلات بدمج ثقافتها العالية بعناصر من الثقافة الشعبية حتى تتمكن الجماهير من استيعابها كما لو كانت مِلكهم. تنتقي النخبة الموروثات التاريخية بعناية شديدة، ثم تحورها بصورة راديكالية لتقديمها بلغة مفهومة للعوام.[39] المقصود بالعوام هم أولئك الذين لا ينتمون إلى أسرٍ ملكية وأرستقراطية أو حاكمة في المجمل، وليسوا من طبقة رجال الدين.
يفتقر العوام إلى الوعي الذاتي بأنفسهم، وتغير أحوالهم يكون نتيجة ظهور نخبة جديدة مشجعة على الحراك الاجتماعي بينهم، فالوطنية ظاهرة حديثة وارتبطت بالتقسيم العقلاني للعمل. هذا لا يعني أن فضائل الإخلاص والتضامن العضوي لم تكن معروفة في السابق، ولكن مغزى الوطنية حديث نسبيًا، لأن المجتمعات الإقطاعية غير مركزية، ومصدر السلطة فيها متناثر وغير مستقر. تتميز بالتفاضل بين هويات اجتماعية، أي بين الفلاحين والقضاة والمقاتلين وأعضاء الدواوين وما إلى ذلك، فالعقلانية الاجتماعية وما يصاحبها من حراك وتقسيم للعمل محدودة للغاية، ولذلك فإن فرد هذه المجتمعات لا يمتلك خيارات كثيرة في تحديد ارتباطاته بما أن القرارت المهمة في حياته مثل مكان إقامته، نوع عمله، أي دين يمارس، ومن يتزوج، محددة سلفًا من قبل محيطه سواء كان قبيلة، قرية أو فئة، وبالتالي لايستغرق وقتًا طويلًا ليتسائل عن هويته.[40] بعض المجتمعات لم تقضي على النبالة، ووسعت رتبها لتشمل أي شخص يقدم خدمات استثنائية للأمة. بتعزيز الحراك الاجتماعي، يرفض العوام الصورة التقليدية للأمة عبر إعادة بناء صورتهم الذاتية كأفراد بكرامة متساوية مع النخب. الانتقال من القرية إلى المدينة يؤدي إلى تغير الهوية الاجتماعية بسبب حرية العمل، وبذلك يصبح سؤال «من أنا» ضاغطًا وحقيقيًا.[40] الإجابة على هذا التساؤل قد تتخذ طرقُا وأساليب مختلفة، ولكن هناك استراتيجيات عامة لتعزيز الهوية القومية:
- نشر أو تعميم صورة معينة عن الأمة.
- خلق وترويج مجموعة من الرموز والطقوس بهدف تعزيز الإحساس بالمجتمع بين المواطنين.
- النهوض بالمواطنة التي تنطوي على مجموعة محددة وواضحة المعالم من الحقوق الفردية والقانونية، واجبات وحقوق سياسية، وحقوق اقتصادية اجتماعية. من شأن ذلك تعزيز مشاعر الولاء، وترسيخ تمييز حاسم بين أولئك المشمولين «المواطنين» و «المستبعدين الأجانب».
- خلق عدو خارجي مشترك للأمة، ليس توجهًا تقليديًا ولكنه أثبت فعاليته في تعزيز الإحساس بالمجتمع سواء كان الخطر وشيكًا، محتملًا أو مصطنعًا.
- التوطيد التقدمي للتعليم القومي والنظم الإعلامية لترسيخ صورة الأمة، واختلاق تجسيد نمطي عن المواطن الصالح.
طبيعة التقاليد الدينية تؤثر على تصور الجماهير لذاتها، ولذلك جادل نيكولو ماكيافيلي بضرورة إعادة إحياء العبادات الوثنية لإضعاف تأثير الكنيسة على الدولة. لأن الأديان السابقة للمسيحية كانت تخدم معتنقيها عوضًا عن تسخير الناس لخدمتها، وبما أن لكل حضارة قديمة إله قومي، كان ولاء الأفراد لجهة واحدة وهي دولتهم. طبيعة معتقدات ماكيافيلي الدينية موضع آراء مختلفة بين العلماء، كان يتحدث عن فكرة طورها وصاغها جان جاك روسو لاحقًا وسماها بالدين المدني في كتاب العقد الاجتماعي، وهو معتقد بمحتوى ثيولوجي ضئيل. مثل ماكيافيلي، رأى روسو بأن المسيحية وإن كانت محقة ثيولوجيًا، فهي عديمة الفائدة كـ”دين جمهوري“ لأنها لا تُعلم الناس الفضائل الضرورية لخدمة الدولة.[41] أشار آخرون لنفس الفكرة مستخدمين مصطلحات مثل الحقوق الطبيعية أو الدين الطبيعي. كتب جون لوك مقالة بعنوان معقولية المسيحية ليُظهر جوانبها المنطقية في ضوء الدين الطبيعي، ومَيَّزَ هنري ساينت جون بين هذه الجوانب وما أسماه بالثيولوجيا المزيفة. بالنسبة لبولينغبروك، كان اللاهوت المصطنع اختراع نخبة من المشرعين والفلاسفة وظفوا الخرافات بطريقة منهجية لتقويم سلوكيات أقوامٍ كانت إلى الهمجية أقرب. استمرار جهل العوام شكل دافعًا لديمومة مصالح هؤلاء، وأصبحت سلطتهم خارج دائرة المساءلة العامة ليتحولوا إلى دولة داخل الدولة.[42] الفكرة الأساسية هي أن ادعاء الدين السيادة سواءً بشكل متكافئ أو أعلى من سيادة الدولة، ينتج دولة داخل هذه الدولة، وهو ما يؤدي إلى اضطراب المجتمع المدني، وربما إلى الحرب. ولذلك اتخذ بولينغبروك موقفًا معاديًا للأحزاب - قبل أن يدافع إدموند بيرك عن محترمية الحزبية - وفضَّل «ملكًا وطنيًا» نتيجة لأزمة الأحزاب الدينية الكبرى في إنجلترا القرن السابع عشر. لم تمتلك الأحزاب الإنجليزية حينها برامجًا سياسية، وجميع بياناتها كانت تفسيرات لنصوص وتقاليد مسيحية. تفسير النصوص الدينية أو مجرد نقل أوامر الله وتطبيقها على المسائل المختلفة، لا يمكن أن يكون عملًا منهجيًا بصورة متكاملة، ولا يرقى ليصبح آيديولوجية سياسية مستجيبة للضرورات والطبيعة البشرية.[43] في الختام، وعي وتفسير الجماهير لذاتها هو نتيجة إسقاط فهم نخبة لذاتها على العوام، ويمكن التمييز بين نوعين رئيسين من الوطنية:[44]
- الوطنية السلطوية: تروج أن البلد بطبيعتها ولذاتها قبل أي شيء آخر، متفوقة على البلدان الأخرى. يتوقع من المواطنين الولاء الكامل وغير المشكوك، والتابع للقادة والامتثال لهم بطريقة غرائزية وغير مشروطة. غالباً ماتتجاهل أوجه القصور والعيوب والشقاق الاجتماعي داخل الأمة، لأنها إمعية وترى المعارضة بحد ذاتها خطراً وزعزعة للاستقرار.
- الوطنية الديمقراطية: تتميز باعتقاد مواطينها أن القِيَم والمُثُل العليا للبلد جديرة بالاحترام والإعجاب، وبذلك يكون الولاء للقيم المؤسسية للديمقراطية. الولاء فيها متعمد ومستطلع، واهتمامهم بالمجتمع من حولهم نابعٌ من مبادئ محددة مثل الحرية والعدالة، وفق مستوى إدراكهم أو تفسيرهم لهذه القيم. يتحدث فيها المواطنون عن أوجه القصور أو العيوب وحرية الشجب والاستنكار مكفولة، ذلك لأنهم يعتبرون المعارضة وليس الامتثال عملاً وطنياً.
كان سقراط قد عرَّف المواطن الصالح بذلك الذي يتحدى الأفكار الشعبية عبر محادثات تأخذ مكانها في المساحات العامة والخاصة بأثينا.[45] فبرغم أن بناء وتشكيل هوية وثقافة قومية عمل نخبوي في الأصل ويهدف إلى توحيد المواطنين داخل مجتمع سياسي مقيد إقليميًا، فهي ليست مشروعًا رأسيًا من أعلى إلى أسفل بالكلية؛ لأن البناء يعتمد كذلك على الشعراء والزعماء الدينيين والروائيين والموسيقيين وغيرهم ليلعبوا دورًا نشطًا في إعادة إنتاج التقاليد القومية، سرد التاريخ القومي، المشاركة في الطقوس القومية وتنظيم احتفالاتها. فهذه الأنشطة المساعدة على تخيل الأمة كمجتمع مُوَحَّد هي من مهام المجتمع المدني.[46]
تستوعب الوطنية كقيمة إيجابية في معظم دول العالم، مع اختلاف الانطباعات المعيارية حول تجلياتها المختلفة. يجيب معظم الناس أنهم يحبون بلادهم لمناقبها أو إنجازاتها، ولكن إن كانت هذه هي الحالة فعلاً، سيقوم الوطني بإعلان ولائه لأمة أخرى تحمل نفس القيم وتطبقها على نحوٍ أفضل، غير أن مامن وطني حقيقي سيقدم على ذلك. حال مواجهة هذا المنطق، يجيب الوطني أنه يحب بلاده لمُجَرَّد أنها بلاده ولا يحتاج لمزيد من الأسباب للولاء وإظهار اهتمام خاص بصالحها. من منظور فلسفي قد لا يكون هذا الجواب مقنعًا بسبب اعتباطيته، ولكنه بالتأكيد وطني.[1] بعض التقاليد الفلسفية الأخلاقية اعتبرت الوطنية نرجسية جماعية مخالفة لمطالب العدالة العالمية والتضامن الإنساني المشترك. تساءل سقراط عن أخلاقية التفرد، وقاد عدداً من الفلاسفة الأخلاقيين مثل جون ستيوارت ميل وإيمانويل كانت إلى استنتاج عالمية وحياد الأخلاقيات، وضرورة التعامل مع جميع البشر على قدم المساواة. هؤلاء يرفضون الوطنية لصالح شكلٍ من أشكال الكوزموبوليتية.[47] تقول مارثا نوسباوم أن الإشفاق وإن كان متأصلًا في علم الأحياء البشري، فهو لا يخلو من تفكير وتقصي. أقامت الجزء الأكبر من جدالها على فلسفة الرواقيين الذين لم يقترحوا تدمير الهياكل المحلية والقومية للتنظيم السياسي وإقامة حكومة عالمية على أنقاضها، الفكرة الأساسية هي أن ولاء البشر لا ينبغي أن يكون لشكل حكومة أو سلطة زمنية، إنما لمجتمع أخلاقي يتألف من إنسانية جميع البشر. بما أن الإشفاق عاطفة تتضمن تأملًا وتدبيرا، بالإمكان تطوير وسائل تمديد المشاعر القوية وتطوير القدرة على تخيل أوضاع الناس حول العالم. التعليم القومي الذي يتضمن تعاليمًا أساسية وعالمية عن حقوق الإنسان ليس كافيًا، ويستحسن على الطلاب أن يتعرفوا على تواريخ الأمم الأخرى، بالإضافة إلى نجاحاتها أو إخفاقاتها، المقارنة قدمت أربع نقاط رئيسية عن أفضلية المواطنة المعولمة:[48]
- يتعلم الناس عن أنفسهم أكثر من خلال التعليم المعولم.
- يتحقق تقدم في حل المشاكل التي تتطلب تعاونًا دوليًا، مثل الاحتباس الحراري.
- يتزايد إدراك الناس بالتزاماتهم الأخلاقية تجاه البشرية.
- يقدم المعولمين حججًا متسقة ومتماسكة بناءً على علامات فارقة يستطيعون الدفاع عنها.
يقول هارفي مانسفيلد أن نوسباوم فيلسوفة متميزة، لكنه شَبَّهَ إدراكها السياسي بفتاة كشافة. يتفق أن بعض تجليات الوطنية قد ينزلق إلى الشوفينية أو ماهو أسوأ، ولكنه لا يرى ذريعة لاستبعاد ماسماه بالوطنية الحصيفة وتجاهل ليبرالية ودستور البلاد.[49] بالنسبة لمانسفيلد تظهر عبارة «الاحترام اللائق لآراء البشرية» في إعلان الاستقلال الأميركي أن استقلال الأمة لم يكن تعسفًا أخلاقيًا، إنما نتيجة ممارسة الناس لحقوقهم بحكم طبيعتهم البشرية، وهذه جزئية متجذرة عالميًا. المثال الثاني لمانسفيلد، كان وصف ألكساندر هاميلتن لدستور الولايات المتحدة بالنموذج العالمي للحكومة الجيدة النابعة من التفكير والاختيار بدلًا من الصدفة والقوة، لأنه يوفر هيكلاً مصممًا بعناية لتمكين الأغلبية السياسية العقلانية، وإحباط مساعيها إن لم تكن كذلك.
علاج التجليات البغيضة للوطنية، يقول مانسفيلد ليس في المواطنة العالمية بل في حكومة ديمقراطية، وإن لم تكن الأخيرة ضامنة للكمال. يلد الناس في بلد ما بشكل اعتباطي، لكنهم يولدون في بلد وليس «في العالم». بالإمكان إظهار الكرم والتعاطف مع أناس في بلدان أخرى، من منطلق احترام الذات وليس العدالة العالمية بحيث يكون للأجنبي ذات استحقاقات المواطن.[50] آخرون أشادوا بمثالية نوسباوم ولكنهم لجئوا لاستعارات واقعية لرفض جدالها. قال آرثر إم. شليزنجر أن مناشدتها كانت لتكون محقة وصائبة لو كان العالم مثاليًا، ولكن على الناس التعامل مع العالم الذي يعيشون فيه.[49] هناك من يجادل بامكانية التوفيق بين الموقفين، وذلك بموازنة الاعتزاز بالفلكلور القومي مع تقدير واحترام عادات وثقافات الأمم الأخرى. وضع الوطنية مقابل الكوزموبوليتية ليس عادلاً، فكلاهما يحمل مضامين إنسانية وأخلاقية، وقد ينحرفان إلى أنماط خطيرة وسلبية كذلك.[51] تجادل مارسيا بارون بتناغم الوطنية مع الأخلاقيات الليبرالية، ذلك أن الخلاف بين الحياد والتحيز ليس بذلك العمق الظاهر. تعترف الأخلاقيات بكلا الاعتبارين من حيث صلتهما بمستويات مختلفة من المداولات الأخلاقية، المحاباة والقلق المخصوص أمور مشروعة ومثمنة من وجهة نظر محايدة وعالمية. مثل الانحياز للعائلة، الأصدقاء والمجتمع المحلي، هذه التحيزات مشروعة وقَيِّمَة ومن شأنها تخليق اهتمام بامتياز البلاد ثقافيًا وأخلاقيًا.[1] معظم هذه المواقف تفترض الأسوأ من الوطنية، مثل العنصرية أو التعصب الأعمى. ولكن العنصرية مفهوم مبتذل، والفخر القومي لا يُترجم إلى عنصرية كما هي مُعرَّفة كأحكامٍ مسبقة وعدائية إتجاه الآخرين استنادًا على اعتقاد بالتفوق الإثني، فالمجتمعات التي تتشارك الدم، والثقافة، والتاريخ هم عادة أقرب إلى بعضهم من أولئك الذين لا يشاركونهم هذه الخصائص، وهكذا يصبح المجتمع مكونًا من شبكة من العوامل المترابطة بالتزام أخلاقي مُحكم تجاه بعضها.[52] بالإضافة إلى طبيعية هذا التحيز فهو ضروري للدولة وعامل أساسي لنجاح الديمقراطية،[53] وله دور استثنائي في تخليق الإبداع وازدهار الثقافة.[52] كما لا يمكن معارضة مفهوم ما بسبب تطوراته الغير المؤكدة. على سبيل المثال يستوعب مفهوم مثل المساواة بشكل إيجابي لدى معظم الناس، ولكن ظواهر مثل معاداة المثقفين، الطب البديل، بعض تمظهرات الشعبوية، تآكل القيم العائلية وما إلى ذلك، جميعها نتائج ثقافة نرجسية ليست مستعدة لتقبل أي شكل من أشكال عدم المساواة. هذه الظواهر وغيرها ناتجة عن تفسير معين لقيمة رفيعة كالمساواة، ولكن تفسيرات كهذه لا توفر سببًا منطقيًا لرفضها جملة وتفصيلا.
الليبرالية
كانت الليبرالية حليفًا تاريخيًا للقومية، إذ كانت الأخيرة شرطاً لازماً لظهور القيم الليبرالية الكلاسيكية،[54] واقترن كلا المفهومين بالبرجوازية، أي الطبقة المتوسطة داخل المدن، حيث اكتسبت الوحدة القومية شعبية كبيرة بينهم. شددت القومية الرومانسية على صلة روحية بالبلاد وأبنائها، وتعلقت بالليبرالية بسبب مبدأ سيادة الشعب كمصدر شرعية للدولة بدلاً من سلالة ملكية، دين أو هيمنة إمبريالية. ولم يكن لحركات التحرر من الأعداء الخارجيين والداخليين أن تظهر، ولما تمكنت الجماهير من تجاوز انقساماتها وتأسيس مجتمع بدون القومية.[55]
كَتبَ ألكسيس دو توكفيل عن الانتماء القومي كشرط أساسي لنجاح الديمقراطية، بما أنه أحد مصادر التضامن الاجتماعي.[56] مفهوم ما عن الهوية القومية ضروري لسلامة العملية الديمقراطية. ترتكز الديمقراطية على هوية متماسكة تستند عليها الأمة، ولا وجود لديمقراطية بدونها؛ لأن الديمقراطية وحدها لاتقدم قراءة تاريخية أو رؤية مستقبلية تحافظ على التماسك المجتمعي. فالأمم التي لاتقدم تعريفًا أساسيًا لأولئك المستفيدين من ثمار المواطنة في كيانها السياسي، وتفشل في توفير بدائل للعلاقات الإقطاعية، هي الأقل احتمالًا لتأسيس ديمقراطية.[57]
بناء الأمة يسبق بناء الدولة، وفقاً لفرانسيس فوكوياما، وهي عملية تختلف عن بناء الدولة في كونها توجد اشياء غير ملموسة مثل التقاليد والرموز القومية، والمرجعية الثقافية المشتركة، أي تخليق هوية مشتركة تنتصر على روابط العائلة، القبيلة، والمنطقة وفي حالات محددة، المجموعة الإثنية إذا كان المجتمع متنوع إثنيًا بصورة تجعل من القومية الإثنية التقليدية عاملًا إشكاليًا. يمكن للدول أن تبني أممًا عبر سياسيات معينة إزاء اللغة، والدين، والتعليم، مثل جمهورية إندونيسيا، المكونة من ثلاثمائة مجموعة إثنية، والتي حققت نجاحات أكبر على المستويات الاقتصادية والاجتماعية مقارنة بدول لم تعكف على البناء كنيجيريا مثلًا.
هناك عدة طرق لبناء الأمة، وأظهرت التجربة أن تشكيل هوية قومية قوية يتحقق بصورة فعَّالة في ظل ظروف سلطوية، نجاح هذه الوسيلة يتطلب شمائل معينة في النخبة السياسية، فالنخب التي تعكس قيم شعوبها المعتلة لن تحقق تقدماً يُذكر مالم تكن على قدر من الإدراك لمكامن الاعتلال، مثلًا لم يُشكل زعماء القبائل قوةً مشتركة للمقاومة طيلة فترة الاستعمار البريطاني لنيجيريا لأن مامن هوية قومية تجمعهم، وعندما مُنحوا الاستقلال تشكلت أحزابهم على أساس قبلي ومناطقي، بطبقة سياسية مرتابة من بعضها أكثر من أي ارتياب ساورها تجاه المستعمر.[58]
يقول صامويل هنتغتون بأن مجتمعات الدول الأعضاء بالجامعة العربية تنقصها الثقة المجتمعية، وتتسم ثقافتها السياسية بالشك والغيرة، والعدائية المستترة أو السافرة حيال أي شخص ليس من أفراد الأسرة الممتدة، القبيلة أو القرية، وتُغرس هذه القيم في الأطفال منذ وقت مبكر. لكي تنجح هذه النخبة عليها تقديم بدائل للعادات التقليدية السائدة وإظهار ثبات وصبر حتى تفعيل هذه التغييرات.[59] قد لا تكون السلطوية المستنيرة شرطًا لازمًا، فما من وصفة جاهزة للانتقال الديمقراطي، ولا توجد ضمانات أن يكون الحاكم السلطوي مثل لي كوان يو.[60] الفكرة الأساسية هي أن المجتمعات ذات الهوية القومية الضعيفة تفشل في بناء الدولة، وهو الذي سيلقي بأثره السلبي على العملية الديمقراطية.[61] يعتمد تغيير التقاليد على تقييم ضررها الكلي على المجتمع، بعضها قد يتطلب توظيفًا حتميًا للعنف، وأغليها يتبدل تدريجيًا عبر تطور الأنماط الاقتصادية، وجس النخب لنبض العوام عير وسائط متعددة لإثارة النقاشات المجتمعية.
هناك نوعان من الوطنية عند ألكسيس دو توكفيل، واحدة تنشأ من شعور غريزي فاتر وغير قابل للتعريف يربط الإنسان عاطفيًا بمسقط رأسه. تُحفَّز هذه الوطنية بالتعصب الديني إن لم تكن هي بحد ذاتها دينًا، لعدم منطقيتها وتصرفها بدافع الإيمان. يُنظر إلى الملك باعتباره تجسيدًا للبلد، وتتحول عاطفة الوطنية إلى حماسة ولاء في أحسن الحالات. يغتر الرعية بانتصارات مليكهم، ويفتخرون بسلطته عليهم ويعدونها مجدهم. هكذا كان الفرنسيون، يعتقدون أنهم أحرار علمًا أنهم لا يملكون السلطة الاعتباطية لملوكهم، ويشعرون بنوع من الغبطة وهم يرددون: ”نحن نعيش تحت ظل الملك الأقوى في العالم“. قدرة هذا النوع من الوطنية على تحفيز الجهود عابرة وغير مستمرة، قد يستطيعون إنقاذ البلاد في ظروفٍ حرجة ولكنهم يسمحون لها بالانحطاط في معظم الأوقات. ولأن آداب أناسها بسيطة ومجتمعها قائم على مؤسساتٍ تقليدية، لا تحتمل هذه الوطنية الاستمرار والديمومة.[62]
النوع الثاني هو الوطنية الجمهورية، هذه أقل سخاءً وربما حماسًا، ولكنها أكثر عقلانية، وأوفر إنتاجًا، وأرسخ جذورا. تنبع هذه الوطنية من المعرفة والتنوير، وتتطور بمساعدة القوانين، وتنمو بممارسة الحقوق المدنية لتشابكها مع مصالح المواطنين. يفهم المواطن تأثير رفاه بلاده على مصلحته الشخصية، ويدرك إجازة القوانين له بالمساهمة في صناعة هذا الرفاه، فيجاهد لتعزيزه لأنه مستفيد في البداية، ثم يتطور مجهوده ليصبح جزءًا من روتينه اليومي.
بمشاركة الأفراد في حوكمة مجتمعاتهم على المستويات المحلية والمناطقية والقومية، يزداد إدراكهم بتأثير الازدهار الذي يصنعونه على سعادتهم الشخصية، ومن ثم يعملون لصالح رخاء مجتمعاتهم بدافع حب الاقتناء، وليس الشعور بالواجب وحده.[62] عندما يقول دو توكفيل أن الوطنية الجمهورية أقل حماسًا، هو لا يقصد عدم إتقادها بالضرورة؛ لأنها أكثر إقدامًا من سواها، المقصود أنها قائمة على ادعاء تقدم إنساني أرقى.[63] لأن نشاط المواطنين في حوكمة مجتمعاتهم ينسب إليهم النتائج، وبذلك يدركون الصلة بين مصالحهم الشخصية والازدهار المشترك.[64]
تمر بحياة الأمم فترات تتغير فيها العادات القديمة، وتهتز القناعات الدينية، وتتذبذب الأخلاقيات العامة، وتُكسر لعنة التقاليد في وقت يكون انتشار المعرفة فيه منقوصًا، وقدر كبير من التشويه يشوب استيعاب الناس لقيم التنوير، فتُضمن الحقوق المدنية بشكل زائف أو محدود. تتخذ البلاد شكلًا بليدًا وملتبسًا في هذه الحالة، ويتراجع المواطنون إلى أنانيات ضيقة وغير مستنيرة؛ لأنهم تحرروا من الضيم السابق بدون التسليم بسيطرة المنطق على حياتهم. توقف هؤلاء منتصف الطريق في خضم ارتباكهم وتعاستهم، فخسروا الوطنية الملكية القائمة على استمرارية التقاليد، ولم يمتلكوا الوطنية الجمهورية القائمة على التفكير والمشاركة في صناعة الصالح العام وصيانته. العودة إلى الوراء مستحيلة، يقول دو توكفيل «المضي قدمًا بتوثيق المصالح الشخصية بالعامة هو الحل الوحيد أمامهم؛ لأن حقبة الوطنية الملكية ولت إلى الأبد بالنسبة لهم، ولا يمكن للرجل العودة إلى براءة طفولته».[65]
قد تشجع الوطنية سياسات اقتصادية بمردود جيد على المدى القريب مثل التصنيع لاستبدال الواردات، ولكن نجاحها يتطلب شيئًا من التخطيط الحكومي الحذر. فالهدف الأساسي من وراء سياسة حمائية كهذه هي مواجهة صعوبات في ميزان المدفوعات، ونجاحها يتطلب حجمًا معينًا للسوق المستهدفة، وخبرة في التصنيع ومساحة من الحريات تسمح بتطور ريادة الأعمال. حماية الصناعات والشركات المحلية الوليدة يسمح لها بالاستفادة من وفورات الحجم وتطوير أفضلية مقارنة، فالشركات القومية قد تتطور وتتوسع عندما تكون محمية من منافسة شركات أجنبية أكثر نضجًا وخبرة في مجال معين.
قد تكون السياسات الحمائية مضرة، خصوصًا ماكانت تعسفية اتجاه الرأسماليين الأجانب والشركات متعددة الجنسيات التي تجلب خبرات وتقنيات جديدة وضرورية، توفر فرص عمل للسكان، تشتري تجهيزاتها من موردين محليين وتدفع الضرائب، أي أنها تولد منافع للاقتصاد القومي عبر الآثار الجانبية لاستثماراتها، وقد تخلق الحمائية ظروفًا للفساد السياسي بالإبقاء على صناعات مكلفة وغير فعالة لمجرد أنها محلية، وهو ماقد يساهم في تثبيط حوافز رفع الكفاءة التكنولوجية والإنتاجية بدرجة معتبرة.[66] تعتمد التأثيرات الإيجابية للاستثمار الأجنبي على مدى جودة بيئة العمل، وهي متصلة مباشرة بفعالية جهاز الدولة مثل: التضخم المنخفض، والتجارة المفتوحة، والبنية التحتية الجيدة، والعمالة الماهرة، والتمويل الميسر، وحقوق ملكية آمنة، وحكومة تتعامل مع جميع المستثمرين، محليين وأجانب، بشكل عادل.[67]
ولكن الاستثمار الخارجي المباشر ليس حلًا سحريًا خصوصًا إذا كان ترکیز الحكومة علی تشجیع الاستثمار في قطاع ماقبل صياغة إستراتيجية للتنمية. تحتاج الدول النامية إلى شكل من الحمائية المدروسة خلال مرحلة ما من تاريخها من أجل تأسيس نمط داخلي مولد للرفاه؛ لأن الفكرة ليست مجرد بناء اقتصاد مرن وباستطاعته استغلال الفرص المتولدة في العالم من حوله، بل بقدرة هذا الاقتصاد على توليد فرصه الخاصة كذلك. بصورة عامة تستبدل عمليات التصنيع وازدياد فرص العمل الانقسامات الفئوية بنظام طبقي، ومن ثم تتقلص مستويات التفاوت نتيجة الحراك الاجتماعي الذي يتعزز بفضل الإعلام، وتحديث وسائل المواصلات المعينة على التمدد الحضري، وبناء المدارس العامة المعنية بتخريج مواطنين، وغرس أخلاقيات ومهارات تؤهلهم الانخراط في سوق العمل. هذه عوامل مساعدة على تعزيز الهوية القومية، وحفظ التماسك المجتمعي باستبدال العالم القروي الثابت والمحدود، بعالم المدينة الكبير والمتنوع.[40]
الماركسية
الماركسية تقليد أممي الجوهر، وفكرته الأساسية أن جميع العمال يتعرضون للاستغلال على يد نخبة من رجال الأعمال المعولمين بشكل متزايد، والوطنية في هذه الحالة تعني مؤازرة «المستبدين». وفقًا لفلاديمير لينين الثورة الاشتراكية ليست موجهة ضد «عبيد الأجور» في دول أخرى، بل هي «نضال بلا رحمة ضد وطنية وشوفينية البورجوازيين في كل البلدان دون استثناء».[68] بالرغم من ذلك أظهر كارل ماركس تأييده لحركات التحرر القومية في زمنه وبالذات تلك في بولندا وهنغاريا ضد الإمبراطورية الروسية، وأعرب عن امتعاضه من تدخلات إمبراطورية هاسبورغ في شؤون ألمانيا وإيطاليا وعرقلتها لجهود الوحدة القومية في البلدين.[69]
تأييد الفيلسوف الألماني للحركات القومية البورجوازية كان براغماتياً في أحسن الأحوال. بحسب المادية التاريخية تطورت المجتمعات البشرية من الشيوعية الأولية -يقصدون مجتمع الصياد وجامع الثمار- إلى القبلية، ومنها إلى الحضارات القديمة مرورًا بالإقطاع، وانتهاءً بالرأسمالية. تطلَّب تعزيز هذا التحول شكلًا جديدًا للتنظيم السياسي، لا يتمحور حول الولاء الشخصي لعائلة مالكة، ويستند على لغة وأرض مشتركة، وتصور لتاريخ ومصير جماعي، أي دولة قومية. كان المجتمع البرجوازي تقدماً تاريخيًا على الإقطاع، وطورت الرأسمالية إمكانيات الإنتاج بوسائل لم تكن مستطاعة من قبل، ولأول مرة في التاريخ البشري، أوجدت طبقة عمالية جماعية، هي عماد النظام الديمقراطي في الأدبيات الماركسية.
كل انتصار رأسمالي على الإقطاع يدفع البشرية خطوة نحو الحرية من القهر السياسي، لتعاظم جماهيرية وتركيز الطبقة العمالية بنهضة البورجوازيين على حساب الأرستقراطيين، وهذا الازدهار هو مايخلق الشروط الضرورية واللازمة للثورة الاشتراكية كطور متقدم على الرأسمالية.[69] إذا أرادت حركة عمالية بلد ما تنظيم نفسها، عليها إتخاذ صبغة قومية في البداية وتوجيه طاقتها نحو ساحة الصراع المباشرة ضدًا على عدو مشترك لأكمل الأمة، مستعمرًا أجنبيًا كان أو حاكمًا إقطاعيًا، وإثر التخلص من الخصم المشترك يَسهل تعريف البورجوازيين كغريم طبقي. لأن المجتمع البورجوازي أوجد نظامًا طبقيًا جديدًا وشروطًا حديثة للاستبداد وإن كان قد تشكل على حطام الإقطاع، وستؤدي هذه التناقضات الجديدة إلى انهياره وإعادة بنائه على أسس اشتراكية وفق النظرية الماركسية.
حاول الماركسيون التوفيق بين موفقين، واحد يؤكد أن الوطنية أداة برجوازية لإشغال البروليتاريا عن صراع الطبقات الاجتماعية، وآخر يفترض احتكار الطبقة العاملة تمثيل الأصالة القومية بحسب ماركس وفريدريك إنجلز، إتساق وسائل الإنتاج بفضل الرأسمالية سيمحي التباينات القومية بين الأمم، فشددا على لزوم تطور حركات النضال القومية بتحويل نشاطها أمميًا بذات جهود عولمة التجارة الحرة عند البورجوازيين، ليتسنى تنظيم الأنشطة العمالية وتمثيلها على المستوى الدولي. ففي الوقت الذي يحتفظ فيه البورجوازيين من كل أمة بمصالح قومية منفصلة، استحدثت الصناعات الكبيرة طبقة تتشارك المصالح باختلاف أممها، ولذلك استنتج ماركس حتمية موت الجنسية وذبول الدولة بنهاية المطاف.[70] وبرغم هذا التحول يشكل البرجوازيين حاضنة أساسية للعدوات القومية، وذلك لعدة أسباب في نظر ماركس:
- النضال للسيطرة على الأسواق يخلق عداوات بين الدول الرأسمالية.
- استغلال دولة ما لأخرى يخلق العداء القومي.
- الشوفينية أحد الأدوات الأيديولوجية الهادفة لاستمرار الهيمنة على البروليتاريا.
يُعتبر ماركس واحدًا من أكثر الشخصيات تأثيرًا في تاريخ البشرية،[71] وكان محقًا عندما جادل بأن من شأن توحيد وسائل الإنتاج خلق علاقة ترابطية بين الأمم، لكنه مال إلى اختزال التباينات القومية إلى محض اختلاف في وسائل الإنتاج. وضع بيان حزب الشيوعي أصول أممية البروليتاريا، مثل تحديد الإنسانية البروليتارية كغاية، وضرورة السعي لتحقيق الشيوعية على صعيد دولي نظرًا لتطور قوى الإنتاج بصورة تتجاوز إطار الدولة القومية. لكنه ومع ذلك لم يصغ إستراتيجية واضحة لمسألة القومية، وقَدَّمَ فريدريك إنجلز، فلاديمير لينين، جوزيف ستالين، روزا لوكسمبورغ، ليون تروتسكي، أنطوني بانيكوك وكارل رينر وغيرهم إجابات مختلفة لهذا السؤال.[72]
كتب فلاديمير لينين أنهم يعترفون بمساواتية الدول القومية، ولكن يتوجب على البروليتاريا أن تضع حلفها الأممي مع العمال فوق كل الاعتبارات، وتقييم أي مطالب قومية من زاوية نضال الطبقة العمالية. حَذَّر البروليتاريا من مغبة وقوعها في شباك الشعارات الوطنية، لأن خطب البورجوازيين الحماسية تهدف إلى تفريقهم وإبعاد أنظارهم عن دسائس دخولهم في تحالفات سياسية مع بورجوازيين من بلدان أخرى. ومن ثم فإن العامل الذي يعطي أولوية للوحدة السياسية مع برجوازي قومه على حساب عمال الأمم الأخرى، يؤذي مصالحه في الاشتراكية والديمقراطية.[69] جادلَ النمساوي أوتو باور بحتمية المشاعر القومية بين العمال، قائلاً بأن فرد العصر الحديث هو ثمرة خصائص الأمة، وحري بالاشتراكيين الترحيب بهذه المزيات كحاصل عوامل تاريخية واجتماعية عوضًا عن إنكارها، وحث على تعليم العمال أنه وبالاشتراكية وحدها، من شأن ثقافتهم القومية بلوغ نموها الكامل.
اُنتقدت طروحات باور من جوزيف ستالين وفلاديمير لينين، ووصفها الأخير بالمتناقضة والمحاولة الخطرة لمحاربة القومية بالقومية. يضيف بأن لكل بلدٍ عدة ثقافات، فـ”الجماهير المظلومة“ اشتراكية، وهناك ثقافة البورجوازيين، وثقافة الإقطاعيين ورجال الدين، تغلب واحدة من هذه الثقافات على المجتمع ولا تتعايش بتناغم. وفقًا للينين فإن من شأن تحويل نضال الأمم للاستقلال من صراع سياسي إلى ثقافي، تخدير عقول العمال ودفعهم إلى الاستسلام لقومية عدوانية تزيد وتفاقم من عزلة وتخلف الثقافات والأمم الصغيرة. بشكل مماثل كتب جوزيف ستالين في مقالة الماركسية والسؤال القومي: «أن الاستقلال الثقافي يعزل الأمم الصغيرة ويبقيها في قوقعة تديم تخلفها، ويستحسن توحيدها تحت مظلة ثقافة أعلى. هذه الثقافة العالية ليست ثقافة قومية بل أممية اشتراكية يُمَهَّدُ لها الطريق بسبب عولمة الرأسمالية».[69][73]
انتقادات
الطبقات في المجتمعات الحديثة هي تشكيلات مصلحية تُحدد بمواقعها في العملية الإنتاجية، وتوفر لأفرادها شعورًا بالعضوية الاجتماعية بدرجات مختلفة. قد لا تقدم ضمانات حقيقية بعدم نشوء طبقة تعيش على امتيازات متوارثة جيلاً بعد آخر، لكنها لا تعتمد على هذه الامتيازات بحد ذاتها، إذ تتحدد مكانة الفرد في السلم الاجتماعي بناءً على الثروة والدخل، الأمر الذي يفتح الأبواب أمام الحراك الاجتماعي مبدئيًا. تقول حنة آرندت في كتابها أصول الشمولية: «أن الأخيرة لم تكن ممكنة سوى في المجتمعات التي مُسِخَت فيها الطبقات إلى جماهير، حيث تتحول السياسة الحزبية إلى مظاهرات أيديولوجية وتنحدر بمسؤوليات المواطنين إلى اللامبالاة على نطاق واسع».
مناقضًا آمال ماركس بـ«ذبول الدولة»، جادل لينين بضرورة وجود منظمة خاصة للعنف، وهي دولة تنظم قمع البروليتاريا البورجوازيين، لعدم تحديد ماركس للجهة المسؤولة عن إعادة توزيع الأراضي ووسائل الإنتاج. ويستطيع أي طاغية منح نفسه سُلطات قسرية بغياب نشاط اقتصادي تطوعي.[74] لم تُنتج الماركسية مجتمعاً خاويًا من الطبقات الاجتماعية بقدر ما استحدثت طبقة جديدة تمتعت بامتيازات تجاوزت تلك المزعومة على بيروقراطيي ومسؤولي الدول الرأسمالية. في الواقع لم تقبض الطبقة العاملة على أي سلطة في جميع الدول الماركسية السابقة والحالية، بينما ازدهرت الاتحادات العمالية في الديمقراطيات الليبرالية إلى عصر المعلومات،[75] حيث تمكنت هذه المنظمات من تحسين ظروف العمل وعوائده على العمال والموظفين عبر المفاوضة المشتركة.
تغيَّر تعريف البورجوازية الذي أشار إلى السيطرة على وسائل الإنتاج، ومر بعمليات دمقرطة عبر آليات ووسائل مختلفة، فأولئك العاملين في مهن إدارية ممن لا يملكون رؤوس أموال كبيرة، يحملون تصورات مختلفة عن العمالة ذات المهارات المتدنية، ويتبؤون منزلة اجتماعية أعلى. ولا يتسنى لعامل فقير وبخلفية تعليمية متواضعة، أن يصبح فاعلًا سياسيًا بسبب انشغاله بتأمين متطلبات نجاته اليومية، وذلك خلافًا لفرد من الطبقة المتوسطة والذي قد يواجه صعوبات في العثور على عمل أو إبقائه. يمثل هذا البرجوازي التحدي السياسي الأكبر عندما يجد نفسه مزاولًا لأشغال يراها تَحُطُّ من قدره، فالطبقة المتوسطة هي الأكثر ميلًا للإيمان بالحقوق الملكية والمطالبة بالمسائلة الديمقراطية.[76]
أجاب التاريخ على تفاصيل طروحات المثقفين اليساريين حول القومية، فلم تؤدي الرأسمالية إلى طبقة عمالية أممية بل إلى نمو متزايد للطبقة المتوسطة، ولذلك لم تعد اليسارية الراديكالية ذات صلة منذ السبعينات تقريبًا. وتُستخدم الشعارات الوطنية في الأنظمة الشيوعية لإضفاء شرعية على النظام، كحالة كوريا الشمالية التي خرجت بعقيدة اسمها زوتشية، وهي ماركسية لينينية بـ«خصائص كورية». يُعرّف الدستور الصيني مجتمع البلاد بالمتعدد إثنياً على الرغم من غلبة الهان بشكل حاسم، وتفرض الحكومة سياسات ترمي إلى الحفاظ على تآلف التعددية الثقافية. غير أن القومية الصينية المُستَندة على إرث ثقافي يقارب الخمسة آلاف سنة، وتاريخ حروب الأفيون والتشنج مع اليابان منذ القرن التاسع عشر، عناوين ظاهرة في الخطاب السياسي. وفقًا لليو كانغ أستاذ الدراسات الصينية بجامعة دوك، النظام الشيوعي الحالي حصيلة القومية الصينية أكثر منه التزامًا أيديولوجيًا بالشيوعية.[77]
بالنسبة للشرق الأوسط فلم تشهد معظم مجتمعات المنطقة حالة تحول من الإقطاع إلى البورجوازية أصلًا.[78] أغلبها محكوم بسلطات قبلية أو عسكرية بوسائل إنتاج متخلفة، وإقطاعية غالبة على الأرياف، وبدون إنتاج صناعي معتبر لتشكل البروليتاريا قطاعًا عريضًا من السكان.[79] بمعنى أن هذه المجتمعات لم تصل إلى مرحلة الرأسمالية أساسًا، ولم تعرف إشكالاتها المجتمعية لتتوفر مبررات الانتماء للماركسية. لتكون المسألة أكثر وضوحًا، اعتبر الماركسيون الرأسمالية شرطًا مسبقًا لثورتهم الاشتراكية، لإيمانهم أنها نمط الإنتاج الوحيد الذي يسمح بتشكل طبقة عاملة، ويتيح نموها وتنظيمها بوعي طبقي.[80] وفقًا لعبد الله العروي لم يتجاوز اهتمام العالم الثالث بماركس عتبة التحذلق والتظاهر بالمعرفة، إذ نادرًا مايتحدثون عن الإنتاجية لأن دوافع انتمائهم ليست اقتصادية أو أخلاقية حتى، وكانوا ليتجاهلون الماركسية لولا سهولة تطويعها للإجابة على تساؤلات ناتجة عن منظور «قومي» أو «ثقافي».[81]
تساهم إشارات ماركس وإنجلز العابرة حول الشرق الأوسط في إظهار التباعد بين منطلقاتهم والمحسوبين على اليسار في المنطقة، مثلًا في حين انتقد فريدريك إنجلز قسوة جنود توماس بيجو، نظر إلى الاحتلال الفرنسي للجزائر واستسلام الأمير عبد القادر الجزائري باعتباره «واقعة مهمة وسعيدة لتقدم الحضارة»، لأن المجتمع البرجوازي بتحضره وصناعته ونظامه يظل أفضل من ”حالة البربرية التي يعيشونها“، على حد تعبيره.[82] بعيدًا عن لغتة المسيئة، ارتبط موقفه بما يسميه الماركسيون بنمط الإنتاج الآسيوي الذي لا يتيح إحداث تحولات اجتماعية ونقلات سياسية كبيرة.[83] وصفوا بالأغبياء النافعين إذ أفقدتهم هذه الجذور المشكوكة الاستقلالية والمقدرة على تحديد أولويات مجتمعاتهم وتحدياتها الفريدة، وتحولوا بصورة تدريجية إلى قوى هامشية وعاجزة عن توفير أكثر من مساهمات اعتذارية لتصورات قوى غير يسارية أصلًا، الإسلام السياسي خصوصًا، وحبل إنقاذ لأي أنظمة وجماعات باحثة عن «خصوصيات ثقافية» لتبرير تسلطها، أو ترفع شعارات ”مناهضة الإمبريالية“ للتمويه على إفلاسها الفكري والسياسي والأخلاقي.[84]
الرأسمالية ليست يوتوبيا، ولكنها منتجة ومتجددة باستمرار،[85] أثبتت قدرتها على تحسين المستوى المعيشي لبلايين البشر منذ القرن الثامن عشر، ومعدلات النمو في الصين والهند أحدث المؤشرات على حيوية النظام.[86] ظهور البلاغيات المعادية لها من فترة لأخرى مدين للمالية العالية وخصخصة أرباح وتعميم خسائر البنوك الإستثمارية. يقترح برنارد ليفي على ناقدي اقتصاد السوق جملة وتفصيلًا، زيارة مناطق العالم التي لم تعرف مبادئه وقوانينه حتى يتسنى لهم مشاهدة حجم التعاسة والبؤس التي تعيشها المجتمعات ماقبل الرأسمالية.[87] وفقًا لجورج لوكاس يستحيل على المجتمعات ماقبل الرأسمالية بلورة مصالح طبقية، وذلك لانقسامها على إقطاعيات فئوية وارتباط عناصرها الاقتصادية بعواملها الدينية والسياسية بصورة وثيقة، فهذه المجتمعات أضعف تماسكًا وحداتها المكونة مكتفية ذاتيًا وأقل ترابطًا لتخلف البنية الاقتصادية، ارتكاز الدولة ليس راسخًا في حياتها ونشاطها الاقتصادي طفيلي.[88]
هذه ليست مجتمعات رأسمالية لأن الدولة هي اللاعب الاقتصادي الرئيسي لسببين في معظم الحالات: إعادة التوزيع بما يحافظ على قبضة النظام السلطوي، فهي طفيلية بسبب استغلال أجهزتها لتمكين أقلية صغيرة من العوائل متعددة القطاعات من استنزاف الموارد دون إنتاج شيء في الواقع أو المساهمة في عملية التنمية. السبب الثاني أنه وخلافًا للدول الرأسمالية حيث يستخدم الأثرياء ثرواتهم لتأييد قضايا ومشاريع معينة أو ربما دعم أنفسهم في سباقات الترشح، المنصب الحكومي والعمل السياسي هو المدخل الرئيسي لإثراء الذات والدائرة المحيطة في المجتمعات الأقل نماءًا.