الفتح الإسلامي للشام
سِلسلةٌ من الحملات والمعارك العسكريَّة التي خاضها المُسلمون لفَتْحُ الشَّامِ تحت راية دولة الخِلافة الراشدة / من ويكيبيديا، الموسوعة encyclopedia
عزيزي Wikiwand AI, دعنا نجعلها قصيرة من خلال الإجابة ببساطة على هذه الأسئلة الرئيسية:
هل يمكنك سرد أهم الحقائق والإحصائيات حول الفتح الإسلامي للشام?
تلخيص هذه المقالة لعمر 10 سنوات
الفَتْحُ الإسْلَامِيُّ للشَّامِ أو الغَزْوُ الإسْلَامِيُّ للشَّامِ، وفي بعض المصادر ذات الصبغة القوميَّة خُصُوصًا يُعرفُ هذا الحدث باسم الفَتْحُ العَرَبِيُّ لِلشَّامِ، هي سلسلةٌ من المعارك العسكريَّة وقعت بين سنتيّ 12هـ \ 633م و19هـ \ 640م بهدف فتح دولة الخِلافة الرَّاشدة للشَّام أو ولاية سوريا الروميَّة، وقد تولّى قيادة تلك الحملات كُلٍ من خالد بن الوليد وأبو عُبيدة بن الجرَّاح ويزيد بن أبي سُفيان بشكلٍ رئيسيّ،[ْ 3] وقد أفضت في نتيجتها النهائية إلى انتصار المُسلمين، وخروج الشَّام من سيطرة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة ودُخولها في رقعة دولة الخلافة الراشدة. بدأت معارك فُتوح الشَّام في خلافة أبي بكر بعد نهاية حُروبُ الرِّدَّة، وكانت قد اندلعت مُناوشاتٌ بين الدَّولة الإسلاميَّة التليدة والإمبراطوريَّة البيزنطيَّة مُنذُ سنة 629م في غزوة مؤتة، غير أنَّ المعارك الحاسمة وقعت في خلافة عُمر بن الخطَّاب، وكان أهمها معركة اليرموك التي هُزم فيها الجيشُ البيزنطيُّ هزيمةً ساحقة حدَّدت مصير البلاد.
الفتحُ الإسلاميُّ للشَّام | |||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|
جزء من الفُتوحاتُ الإسلاميَّة والحُروبُ الإسلاميَّة البيزنطيَّة | |||||||
رسمٌ يُمثِّلُ دُخول المُسلمين إلى بيت المقدس (إيلياء حينها) | |||||||
معلومات عامة | |||||||
| |||||||
المتحاربون | |||||||
الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة مملكة الغساسنة |
دولة الخِلافةُ الرَّاشدة مملكة الغساسنة (بعد سنة 13هـ) | ||||||
القادة | |||||||
هرقل تذارق الحاجب ⚔[ْ 1] |
أبو بكرٍ الصِّدّيق عُمر بن الخطَّاب | ||||||
تعديل مصدري - تعديل |
فُتحت العديد من المُدن الشَّاميَّة سلمًا دون قتال، بعد أن أعطى المُسلمون أهلها عهدًا بحفظ الأمن والأملاك الخاصَّة، والحُريَّة من الرق، وعدم التعرُّض للدين ودُور العبادة بما فيها الكُنس والكنائس والأديرة والصوامع وكذلك عدم إرغام النَّاس على اعتناق الإسلام، ومن هذه المدن: بعلبك، وحماة، وشيزر، ومعرَّة النُعمان، ومنبج؛ والقسمُ الثاني من المُدن فُتحت سلمًا، إنما بعد حصارٍ طويلٍ، لا سيَّما في المواقع المهمَّة حيث وجدت حاميات روميَّة كبيرة، ومنها: دمشق، والرقَّة، وحمص، وبيت المقدس؛ أما القسم الثالث من المُدن فقد فُتح حربًا، ومنها رأس العين، وحامية غزة، وقرقيساء، في حين استعصت جرجومة في الشمال حتى عهد عبد الملك بن مروان الأُموي.
جرت معارك فتح الشَّام تزامُنًا مع معارك فتح العراق وفارس، وقد وجد الكثير من المؤرخين أنَّ سُقوط الشَّام السريع نوعًا ما، يعود إلى عاملين أساسيين: أولهما إنهاك الجيش البيزنطي بعد الحرب الطويلة مع الفُرس، وثانيهما سخط قطاعٍ واسعٍ من الشعب على السياسة البيزنطيَّة، وهو ما دفع بعض القبائل والجهات المحليَّة لِمُساعدة المُسلمين مُساعدةً مُباشرة. لكنّ الرُّواة والمُؤرخين اختلفوا حول سير المعارك وما حصل بعد أجنادين، فقال البعض أنَّ دمشق افتُتحت بعد أجنادين، وقال آخرون أنَّه بعد أجنادين كانت اليرموك ثُمَّ دمشق وفحل معًا، في حين تذكر روايات كثيرة أُخرى أنَّهُ بعد أجنادين كانت فحل بالأُردُن، وبقيت تلك مُشكلةً لم يجرِ التوصُّل إلى حلٍّ لها في تاريخ صدر الإسلام.[1] أقبل أغلب الشَّوام على اعتناق الإسلام بعد سنواتٍ من الفتح، واستقرَّت العديد من القبائل العربيَّة المُجاهدة في البلاد الجديدة واختلطت بأهلها، ومع مُرور الوقت استعربت الغالبيَّة العُظمى من أهالي الشَّام وأصبحت تُشكِّلُ جُزءًا مُهمًا من الأُمَّة الإسلاميَّة.
يُؤمن المُسلمون بأنَّ الرسول مُحمَّد تنبأ وبشَّر بِفتح الشَّام قبل حُصول هذا الأمر بِسنواتٍ عديدةٍ، ووردت في ذلك عدَّة أحاديث، ومن ذلك حديثٌ رواه الإمام مُسلم بن الحجَّاج في صحيحه عن جابر بن سمُرة عن نافع بن عُتبة عن الرسول أنَّهُ قال: «تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللهُ».[2] وفي روايةٍ أُخرى أنَّ النبي بشَّر بِفتح الشَّام وبُلدانٍ أخرى كثيرة خِلال مُعاونته المُسلمين حفر الخندق حول المدينة المُنوَّرة للحيلولة دون اقتحامها من قِبل مُشركي قُريش، سنة 5هـ، ففي حديثٍ منقولٍ عن ميمون بن أُستاذ أنَّهُ قال: «حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ: "لَمَّا كَانَ حَيْثُ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، عَرَضَتْ لَنَا صَخْرَةٌ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، فَقَالَ: "بِسْمِ اللَّهِ"، فَكَسَرَ ثُلُثَهَا، فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَنْظُرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ""».[3] وفي حديثٍ آخر رواهُ الإمام مُسلم عن ثوبان بن بجدد مولى الرسول: «إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "إنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ مُلْك أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا وَإِنِّي أُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ…»،[4] ويتفق العُلماء والمُفسرون أنَّ المقصود بالأحمر هو كنز قيصر الروم الإمبراطور هرقل؛ لأنَّ الغالب عند الروم كان الذهب، وبالأبيض عن كنز كسرى الثاني شاه فارس؛ لأنَّ الغالب عندهم كان الفضة والجوهر، وقد ظهَر ذلك في زمان الفتوح في خِلافة عُمر، فإنه سِيق إليه تاج كسرى وحِليته، وما كان في بُيوت أمواله، وجميع ما حوَته مملكته على سَعتها وعَظمتها، وكذلك حصل بِهرقل لمَّا فُتِحت بلاده.[5]
تجاور العربُ والرُّومُ في شمال شبه الجزيرة العربيَّة وفي الشَّام طيلة قُرون، وقامت عدَّة ممالك عربيَّة مُنذُ العصر الرومانيّ في تلك المنطقة غالبًا ما خضعت للهيمنة الرومانيَّة، ولمَّا اعترفت الإمبراطوريَّة بالمسيحيَّة دينًا رسميًّا، كان العربُ الشوام في مُقدِّمة الشُعوب الرومانيَّة التي تنصَّرت، وقد بدأ تنصيرهم بشكلٍ مُكثَّفٍ في القرن الرابع الميلاديّ بعد أن قويت المسيحيَّة في الشَّام على أثر الحُريّة التي منحها الإمبراطور قسطنطين الأوَّل. وتواصل تنصُّرُ عرب الشَّام في القرن الخامس. وفي أواخر القرن السادس كانت المسيحيَّة غالبة على عرب الشَّام وتمّ ذلك بفضل الرُهبان المتُواجدين في الصحراء وأحيانًا بحملاتٍ تبشيريَّةٍ مُنتظمةٍ قام بها بعض الأساقفة. وأقام الرُومُ للعرب أساقفة عُرفوا بأساقفة المضارب أو «أساقفة العرب».[6] تذكر سيرة القديس أفتيميوس الذي عاش في صحراء القدس في القرن الخامس أنه نصّر شيخ قبيلة عربيَّة اسمه اسباباط بعد أن شُفي ابنه المُصاب بالشلل وتنصّرت معهُ القبيلة كُلَّها. وسُمِّي الشيخ أسقفًا باسم بطرس. وكان هناك مركزان آخران لأساقفة المضارب قرُب دمشق وقرب بعلبك واشترك أساقفتها في المجامع التي عقدت في هذه الفترة. أمَّا عرب شمال الشَّام فقد تنصَّر عددٌ كبيرٌ منهم بفضل القديس سمعان العمودي ومنهم بنو تنّوخ في حاضر قنسرين وحلب. [6]
تتفقُ مُختلف المصادر على أنَّ قبائل قضاعة كانت من أوَّل القبائل التي قدمت الشَّام واستوطنتها واعتنقت المسيحيَّة، فيقول المسعودي: «وَكَانَت قَضَاعَةُ أَوَّلَ مَن نَزَلَ الشَّامِ وَانضَمُّوا إِلَى مُلُوكِ الرُّومِ فَمَلَّكُوهُمُ بَعْدَ أَن دَخَلُوا فِي النِّصْرَانِيَّةِ عَلَى مَن حَوَى الشَّامَ مِنَ العَرَبِ».[7] كذلك هاجرت قبيلة الضجاعم السليحيَّة إلى أطراف الشَّام زمن الروم حيثُ ملكوا المنطقة المُمتدَّة من فلسطين إلى قنسرين قبل وُصول الغساسنة.[8] وفي شمال الشَّام استقرّت قبائل تنّوخ قادمة من العراق هربًا من ضغوط الفُرس وذلك خِلال القرن الثالث الميلاديّ واستقرَّت في مناطق قنسرين وحلب ويروي الخُبراء أن هُناك قبائل أُخرى نزحت إلى الشَّام من ذُريّة كهلان وطيء وعاملة ولخم وجذام.[6] لكنَّ أبرز قبائل الشَّام العربيَّة التي تعود للعصر البيزنطي وأبعدها أثرًا هي دون شك قبيلة الغساسنة. ويرجعُ أصلُ الغساسنة إلى أزد اليمن، هاجروا من جنوبي شبه الجزيرة العربيَّة إلى بادية الشَّام قبل أو بعد حادثة سيل العرم، بفعل تصدُّع سد مأرب أو تهدُمه، وقد سبَّب ذلك تدهور نُظم الزراعة والرَّي، ونقص الإنتاج. وقد وفد الغساسنة على الشَّام أواخر القرن الخامس الميلاديّ، عندما خلت البادية بين حوران والفُرات وعلى امتداد خمسُمائة كيلومتر من أي وُجودٍ عسكريٍّ بيزنطيّ وتخلّى الرُومُ عن الحزام المُمتد بين دمشق وتدمر.[9] لِتتراجع حُدود الإمبراطوريَّة إلى مُثلَّث الرِّقَّة - سورة - الرصافة. ولمَّا وصل بنو غسَّان إلى الشَّام أقاموا في ديار الضجاعمة السليحيّون مُقابل الجزية، وكان هؤلاء وُكلاء للبيزنطيين يجبون لهم الأموال من القبائل التي تنزلُ بساحتهم، وكانت إمارتهم تمُرُّ بدور الضعف والشيخوخة، ويبدو أنَّ غسَّان شعرت بِضُعف سليح، فتوقفت عن دفع الجزية، ونشبت بين الطرفين حربٌ ضروس انتصرت غسَّان وأبادت سليح وحلَّت مكانها في المكان والوظيفة، وعيَّن القيصر الرومي أنستاسيوس الأوَّل بني غسَّان وُكلاء للبيزنطيين مكان سليح، وكتب بينهُ وبينهم كتابًا فيما يُشبه الحلف العسكري في سنة 502م، وهكذا قامت مملكة الغساسنة التي تُدينُ بولائها للروم.[10]
عمِل الروم على مدِّ سُلطانهم إلى العربيَّة الجنوبيَّة والتحالف مع عرب تلك الناحية من شبه الجزيرة كذلك الأمر، ويرجعُ التفاعل بين الروم وعرب الجنوب إلى القرن الأوَّل للميلاد على الأقل، عندما تطلَّعت روما صوب مملكة سبأ ومُدنُها التجاريَّة، فتحالفت مع الأحباش لِتحقيق مصالحها في اليمن بعد أن اعترض اليمنيون السُفن الرومانيَّة، واستولت على بعض الأماكن في اليمن في عهد الإمبراطور كلوديوس، وتمكَّنت خِلال القرن الثالث الميلادي من مد نُفوذها الفعليّ إلى تلك الناحية من شبه الجزيرة عبر حليفتها مملكة أكسوم الحبشيَّة التي أعلنت المسيحيَّة دينًا رسميًّا لها،[ْ 4] وعبر المُبشرين الشّوام من عربٍ وسُريان الذين عملوا على نشر النصرانيَّة في اليمن. وقد تلقّى الأحباش الدعم والتشجيع من الإمبراطور البيزنطي فلاڤيوس يوليوس قسطنس الذي كان يهدف إلى نشر الدين المسيحيّ في بلاد العرب، فانقضوا على اليمن وسيطروا عليها سيطرةً تامَّةً سنة 345م، وقد استمرَّت سيطرتهم أقل من أربعين سنة بقليل.[11] وكان بعضُ النُبلاء ومُلوك اليمين يتذمرون من تنامي النُفوذ الحبشي والرومي، فقاموا بُمحاربة المسيحيَّة السياسيَّة عبر فكرٍ دينيٍّ سياسيٍّ آخر، فجلب الملك أبو كرب أسعد الديانة اليهوديَّة من يثرب ودعا اليمنيين إلى اعتناقها ففعلوا، وهدموا العديد من الهياكل والمعابد المُكرَّسة للآلهة الوثنيَّة.[12] وكان من نتيجة هذا الأمر أن أصبحت اليمن أرضًا خصبةً لامتداد النُفوذ الفارسي المُناوئ لِلبيزنطيين إليها، وجرت فيها عدَّة نزاعات للسيطرة على أجهزة المملكة الحِميريَّة، فدعم الفُرس اليهود وأتباع المذاهب المسيحيَّة المُناهضة للبيزنطيين مثل النُسطوريَّة، فتمكنوا بدايةً من السيطرة على البلاد، ثُمَّ انحسر نُفوذهم أمام النُفوذ الرُومي، وانتشرت المسيحيَّة في طول البلاد وعرضها، واستحال النصارى هم سادة اليمن الحقيقيين.[13] لكنَّ هؤلاء تعرَّضوا للاضطهاد الشديد في عهد الملك ذو نوَّاس يُوسُف أسأر الحِميري، الذي اعتنق اليهوديَّة كي يُحارب بها المسيحيَّة السياسيَّة، فجمع أهل نجران وخيَّرهم بين العودة إلى الوثنيَّة أو الموت حرقًا، ففضَّل مُعظهم الموت في سبيل الإيمان، فحفر ذو نوَّاس أخاديد في الأرض وألقى المسيحيين فيها مع أناجيلهم وأضرم فيهم النار أحياء،[14][15] ووردت تلك القصَّة في القُرآن بِسورة البُروج: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ٤ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ٥ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ٦ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ٧ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ٨ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ٩﴾ [البروج:4–9]. عند ذلك ثارت حفيظة بيزنطية وعقدت العزم على عزل ذي نوَّاس عن حُلفائه الفُرس، فتمَّ إبرام صُلح بين الروم والفُرس تخلَّت فارس بموجبه عن مصالحها في اليمن.
ساهم عربُ الشمال في القِتال إلى جانب الرُوم دفاعًا عن الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، ففي أواخر صيف سنة 502م هاجم قباذ شاه فارس والنُعمان بن الأسود ملك الحيرة الجزيرة الفُراتيَّة وشمالي الشَّام، فحاصر قباذ آمُد وتوغَّل النُعمان إلى حرَّان وتوجَّه صوب الرَّها، واضطرَّت الجُيوش البيزنطيَّة نتيجة الضغط العسكري إلى الانسحاب من أمام الجُيوش الفارسيَّة والعربيَّة، وسقطت آمُد في شهر كانون الثاني (يناير) سنة 503م، وافتدت نفسها بالمال.[16] لم يقف الحليفان البيزنطي والغسَّاني موقف المُتفرِّج تجاه هذا الهُجوم الفارسي - الحيري، ففي صيف تلك السنة ردَّ الغساسنة عرب الحيرة المناذرة عن منطقة الخابور، وواصلوا هُجومهم حتَّى وصلوا إلى الحيرة نفسها، وواصلوا القتال مع المناذرة في الوقت الذي كان فيه الروم والفُرس يتباحثان في شُروط الصُلح، التي أُجبر الفُرس على قُبولها.[16] وفي سنة 528م، أي خِلال عهد الملك الغسَّاني الحارث بن جَبَلة، نشبت حربٌ بين الغساسنة والمناذرة بقيادة الملك المُنذر بن ماء السماء كان من نتيجتها أن هُزم هؤلاء وارتدوا على أعقابهم، وفي السنة التالية (529م) ثار السامريين في فلسطين على الحُكم الرومي، فأقدم الحارث على قمع ثورتهم، ثُمَّ أقرَّ سُلطته على القبائل العربيَّة في أطراف الشَّام وفرض الأمن على حُدود الإمبراطوريَّة، فكافأهُ الإمبراطور جُستنيان الأوَّل بأن منحهُ لقب «بطريرك»، وكان هذا من أسمى الألقاب البيزنطيَّة.[17] ويبدو أنَّ علاقة عرب الشَّام ببيزنطية في عهد الحارث لم تكن علاقة تبعيَّة بالمُطلق، فقد تمتَّع بقدرٍ من الاستقلال الذاتي، ومن الأدلَّة على ذلك أنَّهُ اشترك في الحملة الروميَّة ضدَّ الفُرس سنة 541م، غير أنَّهُ لم يكد يعبر دجلة حتَّى انسحب من الحملة بسبب خِلافٍ حصل بينهُ وبين قائد الحملة على الأرجح.
وعلى الرُغم من التقدير الكبير الذي حظي به الحارث والغساسنة عند الإمبراطور البيزنطي، إلَّا أنَّ حاجزًا استمرَّ قائمًا بينهم، ولعلَّ السبب الأبرز وراء ذلك هو اتباع الغساسنة المذهب المونوفيزيتي، أي مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح المُناهض لِمذهب الدولة الرسمي، ورفضهم هذا الأخير رُغم مُحاولات الرُوم الكثيرة فرضه على كافَّة أنحاء الشَّام.[18] وفي سنة 570م، خلف المُنذر الأكبر بن الحارث أباه سالِف الذِكر، واستهلَّ حُكمه بالحرب مع ملك الحيرة قابوس فانتصر عليه يوم 20 أيَّار (مايو) 578م (وعند البعض سنة 570م)،[19] ويبدو أنَّ الروم كانوا يُعارضون هذا التَّوجّه العسكريّ في المنطقة ويعملون على لجم العرب تنفيذًا لِبُنود المُعاهدة المعقودة مع الفُرس في سنة 561م، كما أنَّهم لم يستحسنوا تطرُّفه في تأييد المذهب اليعقوبي،[ْ 5] فتوقفوا عن دفع المال الذي كانوا يُقدمونهُ للغساسنة ما سبَّب القطيعة بين المُنذر والإمبراطور جستين الثاني. وارتفعت حدَّة التوتر بين الغساسنة والروم في هذه الفترة، إذ دبَّر الإمبراطور مُؤامرةً لِاغتيال المُنذر، فعلِم الأخير بالأمر وهرب إلى البادية، واضطرَّ الروم إلى استرضائه مرَّة أُخرى بعد أن هاجم المناذرة الشَّام أثناء غيابه، كي يعود ويُدافع عن بلاده.[19] وقد حاول المُنذر تصحيح العلاقات مع البيزنطيين، فزار القُسطنطينيَّة في 8 شُباط (فبراير) سنة 580م حيثُ استُقبل بحفاوة، وسعى للحُصُول على العفو عن أصحاب مذهبه المونوفيزيتي، وعمل على توطيد السلام مع البيزنطيين، لكنَّهُ واجه مُعارضةً شديدة من رجال الدين وبعض كِبار رجال الدولة المُتزمتين، الذين أخذوا يُحرِّضون الإمبراطور عليه.[19] واتهم هؤلاء المُنذر بالتواطؤ مع الفُرس بعد أن شارك في حملةٍ عسكريَّة مع عامل الروم على الشَّام المدعو موريس وباءت بالفشل، فتقرَّر القبض عليه انتقامًا. ويبدو أنَّ المُنذر أراد أن يُثبت حُسن نيَّته تجاه حُلفائه البيزنطيين، فهاجم الحيرة وألحق بها أذىً كبيرًا من دون التنسيق معهم، فعدَّ القيصر ذلك تحديًا له ورغبةً من الغساسنة بالخُروج على طاعته، فقُبض على المُنذر ونُفي إلى صقلية حيثُ بقي حتَّى وفاته، وأمر بقطع المُساعدة السنويَّة التي كان البيزنطيّون يُقدمونها إلى الغساسنة.[20]
أثار الإجراء البيزنطي ثائرة أبناء المُنذر فشقّوا عصا الطاعة على الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، فتركوا ديارهم وتحصَّنوا في البادية، واتخذوها مركز انطلاق لِشن الغارات على المناطق البيزنطيَّة بِقيادة النُعمان، وهو الأخُ الأكبر (أو شقيق المُنذر وفق أحد المصادر)،[21] فتعرَّضت بُصرى لِغاراتهم، واستولوا على حوران، ما دفع الإمبراطور البيزنطي موريس إلى تجهيز حملة لِتأديبهم، وقد تمكنت تلك الحملة من القبض على النُعمان وأرسلهُ قائدها ماگنوس إلى القُسطنطينيَّة مُكبلًا.[18] تصدَّعت مملكة الغساسنة على إثر هذه الأحداث وتفكَّكت عُرى وحدتها، واختارت كُل قبيلةٍ أميرًا عليها، وراحت تتطاحن فيما بينها وتُغيرُ على المناطق الحضريَّة في الشَّام، وزاد الغزو الفارسيّ للشَّام الوضع سوءًا وتعقيدًا، الأمر الذي دفع البيزنطيين إلى تعيين ملكٌ غسَّاني جديد لِيقوم بضبط الوضع وإعادة الأمن إلى نصابه وحِماية الحُدود من هجمات الفُرس وحُلفائهم الحيريين،[22] واستمرَّ الأمر على هذه الحال حتَّى انتصر الروم على الفُرس سنة 628م. وفي تلك الفترة، كان الرسول مُحمَّد قد وطَّد دعائم الدولة الإسلاميَّة في المدينة المُنوَّرة، وأرسل العديد من الرسائل إلى الحُكَّام المُجاورين، ومنهم نجاشي الحبشة أصحمة بن أبجر، وكسرى الثاني شاه فارس، والمُقوقس قيرس السَّكندري عامل الروم على مصر، وهرقل قيصر الروم، يدعوهم فيها إلى الإسلام، وقد قام دحية بن خليفة الكلبيّ بنقل رسالة الرسول إلى هرقل، وكان نص الرسالة كالتالي: « مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾».[23] وتنص المصادر الإسلاميَّة أنَّ هرقل أقرَّ بنبوة مُحمَّد ثُمَّ أبلغ حاشيته بذلك فـ«حَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرٍ الوَحْشِ»،[24] وإذ خشي ثورتهم ومن خلفهم ثورة شعبه، تراجع مُعلنًا أنه كان يختبرُ إيمانهم بالمسيح فحسب.[ْ 6][ْ 7]
الوضع السياسي
قبعت الشَّام تحت ظل الحُكم الروماني ومن ثُمَّ البيزنطي ما يقرب من سبعة قُرون قبل أن تسقط بين المُسلمين، وقد تخلل ذلك فترة قصيرة سقطت خِلالها في يد الفُرس الساسانيين، قبل أن يستعيدُها البيزنطيّون بِقيادة الإمبراطور هرقل.[ْ 8] دام الاحتلال الفارسيّ للشَّام حوالي 17 سنة، وفي سنة 626م حاصر الفُرس القُسطنطينيَّة نفسها وهددوها بالسُقوط، لكنَّ هرقل كان قد أعدَّ خِلال هذا الحِصار خطَّةً عسكريَّةً لاجتياح فارس انطلاقًا من شمالي القفقاس بمُعاونة الأرمن والكرجيّون والخزر، فاستولى أولًا على مدينتيّ تفليس ودوين في أرمينية، ودخل مدينة جانزاك عاصمة أردشير الأوَّل، وأشعل النَّار في معبد زرادشت المجوسي انتقامًا لِما أنزلهُ الفُرس بكنيسة القيامة من خرابٍ ودمار عندما اجتاحوا الشَّام، وفرَّ الشاه كسرى الثاني من المدينة، لكنَّ هرقل اضطرَّ إلى إيقاف حملته والعودة إلى القُسطنطينيَّة بعد أن تعرَّضت لِهُجوم الآڤار حُلفاء الفُرس من الغرب، فاستغلَّ كسرى الفُرصة وهاجم العاصمة البيزنطيَّة من الشرق، غير أنَّ فشل هُجوم الآڤار حملهُ على الانسحاب، وارتدَّ إلى الشَّام.[25]
أتاحت هذه الظُروف الفُرصة لِهرقل لِيستكمل خِطَّته الهُجوميَّة التي كان قد أعدَّها، فشرع في خريف سنة 627م بالزحف نحو الأراضي الفارسيَّة، وظهر أمام نينوى. وهُناك نشبت المعركة الحاسمة التي قرَّرت مصير النزاع بين فارس وبيزنطية، فأحرز هرقل نصرًا واضحًا، وحلَّت بالجيش الفارسي هزيمة ساحقة، ثُمَّ واصل زحفه باتجاه المدائن فاستولى عليها في سنة 628م، وكان كسرى الثاني قد هرب منها عند اقتراب الجيش البيزنطي. وما حدث آنذاك من انقلابٍ في فارس، إذ جرى عزل كسرى الثاني وقتله وتوليه ابنه قباذ الثاني شيرويه العرش؛ جعل من استمرار الحرب أمرًا لا داعي له، فعقدت الدولتان اتفاقيَّة صُلح استردَّت بيزنطية بِمُوجبها ما كان لها من أملاكٍ في أرمينية والجزيرة الفُراتيَّة والشَّام.[25] تركت الحرب البيزنطيَّة الفارسيَّة الإمبراطوريتين مُنهكتين، فلم يتمكَّن هرقل من استعادة التوازن الإمبراطوري، وقد أدّى توالي الأزمات الدَّاخليَّة والخارجيَّة السريعة إلى عدم الاستقرار والتناقُضات والتقلُّب، وهي الأُمور التي فرضت على هرقل أن يظل في حالةٍ مُضطربة.[25] وبِتنامي القُوَّة الإسلاميَّة، شعرت القبائل العربيَّة المُوالية لِبيزنطية في جنوبي الشَّام بِحُدوث تغيُّرٍ دينيٍّ وسياسيٍّ في الحجاز، على مقربةٍ منها، تمخَّض عن قيام حُكومةٍ مركزيَّةٍ قويَّةٍ في المدينة المُنوَّرة، ودخلت في طاعتها مُعظم قبائل شبه الجزيرة العربيَّة، وراحت تتطلَّع نحو الشمال. ورأت في هذا التطوُّر خطرًا يُهددُ كيانها الدينيّ والسياسيّ، لذلك وثَّقت علاقتها ببيزنطية. ورأى هرقل في هذا التنامي تدخُلًا في شؤونه واختراقًا لِسيادته بعد انتصاره الكبير على الفُرس، ومع ذلك فقد عدَّهُ مُجرَّد اندفاعٍ قبليٍّ أو مُحاولة إمارةٍ عربيَّةٍ ناشئة توسيع رُقعتها الجُغرافيَّة، من ذلك النوع الذي اعتاد بدو الصحراء أن يشُنّوه بين وقتٍ وآخر على أطراف الإمبراطوريَّة، ولا تلبث أن تتوقَّف تلقائيًّا عندما يتصدّى لها حُرَّاسُ الحُدود من فِرق الجيش الإمبراطوريّ أو القبائل المُوالية لِبيزنطية.[26]
إداريًّا
أنشأ الرومان بعد سُقوط بيت المقدس بأيديهم سنة 70م خِلال الثورة اليهوديَّة الكُبرى ولاية فلسطين السوريَّة التي جمعت مناطق اليهوديَّة والسامرة والجليل، وقسَّموها إلى أبرشيَّتين.[ْ 9] وقامت على أطراف تلك الناحية من الإمبراطوريَّة مملكة الغساسنة العربيَّة الحليفة للروم كما أُسلف.[ْ 10] وفي الفترة اللاحقة على سنة 415م، قسَّم الروم البيزنطيون ولاية فلسطين السوريَّة إلى قسمين: سوريا الأولى (باللاتينية: Syria Prima) وعاصمتُها أنطاكية وسوريا الثانية (باللاتينية: Syria Secunda) وعاصمتُها أفامية. وفي سنة 528م أوجد الإمبراطور جُستنيان مُقاطعة «ثيودوریاس» (تيمُنًا بزوجته ثُيودورا)[ْ 11] الساحليَّة عبر اقتطاع بضعة أراضي من الولايتين سالِفتا الذِكر.[ْ 12] كذلك، كان الروم قد أنشأوا سنة 400م مُقاطعتيّ فينيقيا الساحليَّة (باللاتينية: Phoenice Paralia) وعاصمتها صور وفينيقيا اللُبنانيَّة (باللاتينية: Phoenice Libanensis) وعاصمتها حِمص.[ْ 13] وتنُصُّ وثيقة الكرامات العرضيَّة (باللاتينية: Notitia Dignitatum) التي كُتبت بعد فترةٍ قصيرةٍ من الفتح الإسلامي للشَّام، أنَّ فينيقيا السَّاحليَّة كانت تُحكم من قِبل قُنصل، بينما حُكمت فينيقيا اللُبنانيَّة من قِبل «رئيس» (باللاتينية: Praeses)، وأنَّ كِلا المُقاطعتين كانتا تتبعان الأبرشيَّة المشرقيَّة.[ْ 14] وعندما تسلَّم هرقل زمام الحُكم في القُسطنطينيَّة سنة 610م، كان الخراب والدَّمار قد حلَّا بالإمبراطوريَّة، وساءت أحوالُ البلاد الاقتصاديَّة والماليَّة، وأصاب الشلل أجهزة الإدارة الحُكوميَّة، فأضحت الحاجة ماسَّة لِقيام حركة إصلاح داخليَّة، فالتفت هرقل في بادئ الأمر إلى إعادة تنظيم أقاليم الدولة بما أدخلهُ من نظام الأجناد، وترتب على ذلك التخلُّص من أُسس النظام الإداري الذي وضعهُ الإمبراطوران دقلديانوس وقِسطنطين، والذي لم يعد مُلائمًا لِسد حاجات العصر.[27] وجرى تقسيم الأراضي التي لم يمسَّها العدوُّ بالضرر إلى أقاليم عسكريَّة كبيرة، وهي المعروفة بالأجناد، يتولّى حُكمُ كُلٍّ منها قائدٌ عسكريٌّ. وبذلك اتخذت التنظيمات الإداريَّة الجديدة طابعًا عسكريًّا خالصًا.[ْ 15] ويتمثَّل هذا النظام في استقرار الجُند في أقاليم آسيا الصُغرى والشَّام، ولِذا جرى إطلاق لفظ أجناد على الأقاليم العسكريَّة التي نشأت بعد ذلك، وأضحى هذا اللفظ الذي كان يُطلقُ على لواءٍ من الجُند، يُطلقُ على الأرض التي تُشغلها القوَّات العسكريَّة، وتقرَّر منح الجُند مساحاتٍ من الأرض كحلٍّ للاضطراب الماليّ بِشرط أن تكون الخدمة العسكريَّة مُقابل ذلك وراثيَّة.[28] حلَّ نظامُ الأجناد محل نظام حُكومات الأقاليم الذي فقد أهميَّته، والذي كان يُعدُّ من أهم مظاهر الإدارة البيزنطيَّة. ونتج عن ذلك أن تغلَّبت الصفة العسكريَّة على إدارة الإمبراطوريَّة، وأُعيد النظر بِتنظيم القُوَّات المُسلَّحة. وأتاح هذا التغيير إلى قلب المُعادلة العسكريَّة لِصالح الروم أمام الفُرس.[29] غير أنَّ هذا النظام الجديد لم يترسَّخ في الشَّام بِفعل قِصر المُدَّة بين إقراره ووُقوع هذه البِلاد بيد المُسلمين، وبالتالي لم يُتح لِهذا الإقليم أن يستفيد من إيجابيَّاته، وفوجئ البيزنطيّون بالزحف الإسلامي باتجاه الشَّام وهُم في حالة انتقالٍ من النظام القديم إلى النظام الجديد المُستحدث.
اجتماعيًّا
كان عامَّة الشوام قبل الفتح الإسلامي يشعُرون بالظُلم الاجتماعي المُرتبط أساسًا بالنظام المالي الذي أثقل كاهلهم بالضرائب الباهظة. وكانت الضرائب المفروضة على المُدن والقُرى الشَّاميَّة على نوعين: ضرائب نظاميَّة، وضرائب طارئة لِمُواجهة أوضاع خاصَّة. وأهمَّ الضرائب النظاميَّة اثنتان: الأولى هي ما يُفرضُ على الأرض وتُقدَّرُ بنسبةٍ مُعيَّنةٍ من قيمتها، ثُمَّ قُدِّرت بِنسبة 12.5% من المحاصيل، والثانية هي ضريبة الرأس. أمَّا الضرائب الطارئة فتُفرض في مُناسباتٍ خاصَّة، وتُعدُّ أكثر إرهاقًا للطبقة الشعبيَّة من الضرائب النظاميَّة، مثل ضريبة الحرب في أيَّام الإمبراطور هادريان، وضريبة التَّاج، وضريبة الطعام لِسد الحاجات المُتغيِّرة للحاميات وللإدارة الروميَّة. وأُضيفت ضريبة الأرض إلى ضريبة الرأس في عهد قِسطنطين، فأضحى مجموعُ الوحدات التي تُجمع بين النَّاس والأرض، أساسًا للتقدير، وهذا يعني ربط الإنسان بالأرض.[30] ويبدو أنَّ هذا النظام الضريبي لم يعد يفي بِسد حاجات الإمبراطوريَّة بسبب كثرة النفقات العسكريَّة والإداريَّة. وسبَّب عُيوب النظام الإداري انتشار الفساد، وتفشّي السرقة، وابتزاز الأموال، وأدّى ذلك إلى الفقر والخراب، وأثار الاضطرابات الدَّاخليَّة، وفُقدانُ الأمن. وما حدث في الإمبراطوريَّة بعد ذلك من مُشكلاتٍ اجتماعيَّةٍ وتراجُع الزراعة بِفعل الحُروب المُستمرَّة في الخارج والثورات الدَّاخليَّة؛ دفع بالإمبراطور جُستنيان إلى حل المُشكلات الماليَّة من خِلال إصلاح النظام الضريبي، ففرض على رعاياه أن يدفعوا كُل ما للحُكومة من ضرائب، وأمر بِمسح الأرض، وقسَّمها إلى وحداتٍ مُتساويةٍ في قيمة الإنتاج بِغض النظر عن مساحتها، تدفع كُل وحدة منها ضريبة ثابتة، ثُمَّ أحصى السُكَّان في القُرى وفرض عليهم ضريبة الرأس. وتحدَّدت قيمة الضريبة في الشَّام على الذُكور من 14 إلى 65 سنة، وعلى الإناث من 12 إلى 65 سنة.[30] وحصل الملَّاكون الكِبار على حق جباية الضرائب المُستحقَّة على ضِياعهم ودفعها إلى الخزينة المركزيَّة مُباشرةً ممَّا جعل سُلطة الجُباة عليهم مُنعدمة. وكُلِّف المجلس البلدي في كُل قرية بِجمع الضرائب من القُرى التابعة للمدينة وتوزيعها. ولقد ساهم سُكَّانُ القُرى في دفع الضرائب.
نتج عن هذا النظام أن تحمَّل الفلَّاحون والمُزارعون العبء الأكبر من الضريبة، ورُبطوا هُم وأُسرهم بالأرض التي سُجِّلوا عليها، وذلك بهدف تيسير جمع الضرائب، ولِضمان زراعة الأرض. كما أنَّ سوء الجباية وتعسُّف الجُباة دفع صِغار الملَّاكين إلى طلب حِماية كِبار الملَّاكين ليتولّوا مسؤوليَّة دفع الضرائب عنهم مُقابل تنازُلهم لهم عن أملاكهم، فأصبحوا بذلك مُزارعين مُرتبطين بالأرض. وعمد الملَّاكون الكِبار من جهتهم إلى مُضايقة الملَّاكين الصِغار، ودفعهم إلى طلب حمايتهم بهدف توسيع مُلكيَّاتهم. ومع أنَّ السُلطات الحُكوميَّة المركزيَّة لم تكن تُشجِّع الحِماية، وحاولت الحد منها، إلَّا أنها اعترفت بها في أوائل القرن الخامس الميلاديّ، كأمرٍ واقع وكحلٍّ لِمُشكلة الضائقة الاقتصاديَّة.[30] ومن الأمثلة التي يسوقها المُؤرخون المُتعلِّقة بالظُلم الاجتماعي في الشَّام خِلال العصر البيزنطي، وتُؤخذ على أنَّها دليلٌ على وُقوعه، أنَّ المُسلمين عندما اضطرّوا للجلاء عن حِمص قبل معركة اليرموك، طلب أبو عُبيدة من عامله على الخِراج أن يُعيد ما كان قد أخذهُ من أهل حِمص إليهم، بحجَّة أنَّه لا ينبغي للمُسلمين أن يأخذوا من الأهالي شيئًا إذا لم يمكثوا في المدينة ويُدافعوا عنها.[31] واجتمع حبيب بن مسلمة بِأهل حِمص وردَّ عليهم مالهم، فقالوا له: «رَدَّكُمُ اللهُ إلَيْنَا، وَلَعَنَ اللهُ الذِينَ كَانُوا يَمْلِكُونَنَا مِنَ الرُّوْمِ، وَلَكِن وَاللهِ لَو كَانُوا هُم عَلَيْنَا مَا رَدُّوا عَلَيْنَا، وَلَكِن غَصَبُوْنَا، وَأَخَذُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِن أَمْوَالِنَا، لَوِلايتُكُمُ وَعَدْلُكُمُ أحَبُّ إلَيْنَا مِمَّا كُنَّا فِيْهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالغُشْمِ».[32]
دينيًّا
دانت الغالبيَّة العُظمى من أهالي الشَّام قبل الفتح الإسلامي بالمسيحيَّة، وكان هُناك قسمٌ صغير يدينُ باليهوديَّة. وقد انقسم النصارى الشوام إلى طوائف مُختلفة، ومن المعروف أنَّ هذا الانقسام حصل مُنذ اختتام أعمال مجمع خلقدونية سنة 451م، ومُحاولة الأباطرة الروم تطبيق قراراته عبر جميع أنحاء الإمبراطوريَّة وعلى جميع الأهالي. وكان هذا المجمع قد عُقد للتباحث حول طبيعة المسيح وإقرار مذهب رسمي مُوحَّد للإمبراطوريَّة بعد أن كثُرت الأقوال والمذاهب، واستقرَّ الرأي في النهاية على الإيمان باتحاد الطبيعتين، الإلهيَّة والبشريَّة، في شخص المسيح، اتحادًا غير قابل للانفصام.[33] وقد حصلت في الشَّام مُنذُ ذلك الوقت قلاقل دينيَّة اتخذت صفة الثورات الوطنيَّة العنيفة عوض الفتن الطائفيَّة بشكلٍ مُباشرٍ، بِدليل استمرار تحالُف القبائل العربيَّة النصرانيَّة، المُخالِفة للعقيدة الرسميَّة للإمبراطوريَّة، مع بيزنطية. ومن المعروف أنَّ النصارى الشوام انقسموا إلى سُريانٍ أو يعاقبة، وملكيّون أو روم. ويُشيرُ المُؤرخون إلى أنَّ المذهب اللاخلقدوني المونوفيزيتي (اليعقوبي) انتشر بين القبائل العربيَّة مثل إياد وربيعة وقُضاعة. أمَّا القائلون بالمذهب الخلقدوني (الملكيّون) فكانوا بِمُعظمهم يعيشون في المُدن التي اصطبغت بالثقافة الهلينيَّة، مثل أنطاكية وسلوقية واللاذقيَّة وبعلبك وبيروت وقيسارية وبيت المقدس. وكانت نسبةٌ عالية من اليعاقبة مُستاءة من الحُكم المركزي،[34] وكان من الطبيعيّ أن تُولِّد تلك الانقسامات اللاهوتيَّة، والاضطهادات الدينيَّة، نفورًا وكراهيَّة وعداء في الشَّام، حيال الروم في بيزنطية، كما كانت عليه الحالة النفسيَّة في العراق تجاه الساسانيين الفُرس، الذين لم يمتنعوا عن اللُجوء إلى العُنف وسفك الدماء لِإخضاع المسيحيين، من نساطرة ويعقوبيين، إلى سياستهم المجوسيَّة.[33] كذلك فقد عانى المسيحيّون الشوام الأمرَّين بعد سيطرة الفُرس على البِلاد، إذ تعاون هؤلاء مع اليهود لاقتحام بيت المقدس بعد ثلاثة شُهورٍ من الحِصار،[ْ 16] وفتكوا بما بين 57,000 و66,500 مسيحيّ، وسبوا حوالي 35,000 آخرون بما فيهم بطريرك المدينة زكريَّا،[ْ 17] كما أُحرقت الكثير من الكنائس بما فيها كنيسة القيامة، وتمَّ الاستيلاء على عددٍ من الآثار المُقدَّسة بما فيها صليب الصلبوت والحربة المُقدَّسة والإسفنجة المُقدَّسة، ونُقلت كُلَّها إلى المدائن عاصمة فارس.[ْ 18] وقد ساهم اليهود في مذابح المسيحيين، وقتلوا الكثير منهم، لذا شاع كره اليهود في الشَّام بعد أن استعادها الروم، وقبل أن يفتحها المُسلمون.[ْ 19]
عسكريًّا
يرجعُ الفضل للإمبراطور موريس والقائد بلزاريوس في وضع أساس الجيش البيزنطي، وزاد الإمبراطور هرقل من كفاءته وقُدرته القتاليَّة، وانتصر به على الفُرس والصقالِبة والآڤار. أعاد الإمبراطور موريس تنظيم الهيكل العام للجيش، ووضع أُسس التجنيد، ورفعَ عديد الوحدة القتاليَّة إلى أربعمائة، وجعلها الوحدة الأساسيَّة للجيش، ثُمَّ جمع عددًا من هذه الوحدات في مجموعةٍ واحدة يتراوح عديدُها بين ستة وثمانية آلاف، وسمَّاها «الفرقة».[35] وتُشكِّلُ فرقة الفُرسان الثقيلة عِماد الجيش البيزنطي بما لها من أهميَّةٍ كبيرة. ويرتدي الفارس قميصًا معدنيًّا من رقبته حتَّى الفخذين، ويحملُ درعًا مُستديرًا، كما يرتدي قلنسوة على رأسه وقفَّازًا طويلًا يُغطي اليدين إلى ما بعد الرسغ، وينتعل حذاءً من الصُلب. وزُوِّدت جيادُ الضُبَّاط وقوَّاتُ الخط الأماميّ بِمُقدِّمة حديد لِحمايتها، وجُهِّزت الجِياد بِسُروجٍ مُريحة، وركابٍ حديديّ. يستخدمُ الفارس أثناء القتال سيفًا عريضًا وخنجرًا وقوسًا، ويحملُ جُعبةً مملوءة بالسِهام وحربة طويلة، ويُثبِّت بلطة في سرح حصانه أحيانًا.[35] وكان الزيُّ العسكريُّ موحدًا، يشتملُ على معطف ورايةٍ مُثلثة على رأس الرمح، وخصلة من الشعر على الخُوذة. والواقع أنَّ هذا اللباس العسكري للفُرسان، الذي اتصف بِثقل الوزن، شكَّل عائقًا أثناء العمليَّات القتاليَّة أمام القوى الإسلاميَّة التي اتصف مُقاتلوها بِخِفَّة الحركة، إذ حدَّ من حُريَّة حركة الفارس وحرمهُ من الاستفادة من كفاءته القتاليَّة ولياقته البدنيَّة.[35] وانقسمت فرقة المُشاة في الجيش البيزنطي إلى قسمين:
- فرقة المُشاة الثقيلة: ارتدى أفرادُها رداءً معدنيًّا وقفَّازاتٍ طويلةٍ ودُروعًا للسَّاق وخوذة حديديَّة من الأمام، وحملوا دُروعًا مُستديرة كبيرة، وشكَّل الرمحُ والسَّيفُ والبلطةُ سلاحُهم الهُجوميّ. وكان هذا اللباسُ عائقًا ميدانيًّا لِهذه الفرقة من المُشاة تمامًا مثل فرقة الفُرسان الثقيلة.[35]
- فرقة المُشاة الخفيفة: اقتصرت مُهماتُها العسكريَّة على الدفاع عن الممرَّات والمناطق الجبليَّة، وحِماية القِلاع والمُدن الهامَّة، وشكَّل الرُماة عِماد هذه الفرقة.[35]
ويتناسبُ تنظيم الوحدات العسكريَّة مع التكتيل الذي يُنفذونهُ أثناء القِتال، وهو أُسلوبٌ مرنٌ يتغيَّرُ من معركةٍ إلى أُخرى، ويُحدَّدُ من قِبل القادة بالاستناد إلى أُسلوبِ العدوِّ القتاليِّ. وكان هُناك سُلَّمٌ لِرُتب الضُبَّاط. أمَّا المُصطلحات الفنيَّة المُستخدمة في الجيش البيزنطي فكانت خليطًا من الكلمات اللاتينيَّة واليونانيَّة. وعرِفت بيزنطية نظام الكتائب في التكتيك القتاليّ القائم على سلاحيّ الفُرسان والمُشاة، وذلك بعد أن أخذتهُ عن اليونان، إلَّا أنَّهُ في العصر الإسلاميّ الأوَّل، كانت جُيوشُ بيزنطية تُقسم إلى فرق تُسمَّى «كراديس» يضمُّ كُلٌّ منها زهاء سُتمائة جُندي.[36] والمعروف أنَّ عديد الجيش البيزنطي النظامي في الشَّام لم يكن كبير الحجم، ولم يكن بإمكان الإدارة العسكريَّة البيزنطيَّة توفير أكثر من عشرين ألف جُندي للدِفاع عن هذه البِلاد، في ظل الأخطار التي تتعرَّض لها الولاياتُ الأُخرى في آسيا وأوروپَّا ومصر، ولا يُمكنُ الحُصول على جُنودٍ منها، لذا لم يبق مجالٌ في البحث عن قوى عسكريَّة للشَّام سوى أرمينية القريبة التي يُمكنُ الاعتماد عليها. كذلك عمد الروم إلى تجنيد العرب المُقيمين على أطراف الإمبراطوريَّة، وبخاصَّةٍ أنَّهم يتمتعون بِصفةٍ إضافيَّةٍ هي معرفة الأرض ومُناخها بالإضافة إلى أساليب القِتال. وتبنّى هرقل النظريَّة القائلة إنَّ خيرُ وسيلةٍ لِقتال العرب هي استخدامُ عربٍ آخرين إزائهم، لذلك كان من الضروريّ لِبيزنطية أن تحتفظ بِصداقة بعض القبائل، وتنويع صِلاتها بالعرب.[37] وكانت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة تعمد إلى تجنيد المُرتزقة لِلقتال في صُفوف جُيوشها عند نُشوب أيِّ حرب، لكنَّ الانهاك الاقتصادي الذي حلَّ بها بعد الحرب الطويلة مع الفُرس جعلها عاجزة عن تجنيدهم ما أن ظهر الخطر الإسلامي، واستعاض هرقل عن المُرتزقة بالجُند الفلَّاحون أهالي الأجناد التي قام بإنشائها، فغدا هؤلاء الذين حصلوا على إقطاعاتٍ مُقابل الالتزام بالخدمة العسكريَّة والنازلون في الإقطاعة، عُنصُرًا ثابتًا في قُوَّات الجيش البيزنطي، وأمدَّتهم إقطاعاتهم بالوسائل الاقتصاديَّة التي تكفل لهم سُبل العيش، فكان كُلٌّ منهم يخرج إلى الحرب بِسلاحهِ وفرسهِ.[29]